اسم المستخدم

 

كلمة المرور

 

    
 
بحث
اللغه
select
الكرازة السنة الخامسة والأربعون17 نوفمبر 2017 - 8 هاتور 1734 ش     العدد كـــ PDFالعدد 45-46

اخر عدد

التجَارب وَالخبرَات الروحيّة

مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث

17 نوفمبر 2017 - 8 هاتور 1734 ش

كان من الممكن أن يعيش الإنسان في سهولة كاملة، لا يتعرض لخطية، ولا لتجربة. ولكن في هذا، لا يظهر عمق الإنسان، ولا يُعرَف معدنه. فسمح الله بالتجارب، تعرض لها كل القديسين، وأخذوا منها خبرات روحية.

آدم كان يعيش مع الرب في الجنة في حياة البر، ولكن كان لابد لإرادته أن تُختبر، هل يثبت في البر أم لا. واُختُبِر آدم وسقط. وذاق مرارة الخطية، والبعد عن الله. وكانت هذه هي الخبرة الأولى لنتائج الخطية. ومع ذلك أخذ آدم بركة من هذه التجربة، إذ أن طبيعته بعد الفداء وبعد القيامة، ستكون أفضل، طبيعة نورانية روحانية، تلبس البر ولا تسقط..

ولم نسمع عن آدم – بعد سقطته – أنه سقط مرة أخرى.

كل تجربة لها بركاتها وخبراتها، ولولا ذلك ما سمح الله بها. المهم أن يتحسس الإنسان هذه البركات ويغتنمها..

عاش داود النبي في أول حياته عيشة هادئة، في الصلاة والترتيل والتأمل، بالمزمار والقيثار والعشرة أوتار.. وإلى هنا ولم تكن نقاوة داود قد اُختُبِرت بعد. وكانت خبراته الروحية محدودة في نطاق معين. ثم اُختُبِر وسقط. وفي سقوطه عرف ضعف طبيعته، ودخل في حياة الانسحاق والدموع، وفي حياة المذلة، وشعر أنه في الموازين إلى فوق. صارت دموعه له طعامًا نهارًا وليلًا. واستفاد تواضعًا ووداعة. وفي اتضاع قلبه ارتفعت حياته روحيًا.. وظهر تواضعه حينما شتمه شمعى بن جيرا، وهو ملك، شتائم جارحة. فقال: "الله قال لهذا الإنسان اشتم داود".. ولم نسمع أن داود كرر تلك الخطية مرة أخرى، لأنه ذاق مذلتها.

كثيرًا ما يرى الله أن أجمل ما يكتسبه الإنسان هو الاتضاع، فيسمح له بالسقوط لكيما يتضع ويعرف ضعفه.

وإذ يعرف الإنسان ضعفه، يدخل في حياة الاحتراس والتدقيق.

يعرف ضعفه، ويعرف أن الخطية «قد طرحت كثيرين جرحى، وكل قتلاها أقوياء»، فيحترس ويدقق، ويبعد عن العثرة، وعن كل مصادر الخطية. وبالاتضاع والاحتراس يتنقى قلبه.

القديس تادرس أخطأ إذ قَبل الرئاسة أثناء مرض معلمه القديس باخوميوس، فعزله أبوه من كل مسئولياته.. وفي عزله اتضع قلبه، وشعر أن كل أمور الدير تسير سيرًا حسنًا بدونه.. وكما قال عنه القديس باخوميوس "إن تادرس استفاد روحيًا في سنتي عزله وحبسه أضعاف مما استفاده كل حياته".

في كل ما يحدث لك، حاول أن تستفيد روحيًا، وأن تنمو، وتزداد معرفة بالله، وتزداد معرفة بنفسك، وتزداد معرفة بالطريق الروحي، وبحروب الشياطين وحيلتهم، وطرق مقاومتهم، وتزداد اتضاعًا وانسحاق قلب.

ولنأخذ بطرس الرسول كمثال: قبل الاختبار كان يظن في نفسه أنه شيء «لو أنكرك الجميع، لا أنكرك أنا... ولو أدى الأمر أن أموت معك».. شعور بالذات، بالقوة، بالأفضلية على الآخرين. شعور أنه قادر على الانتصار بنفسه، بإرادته، بنقاوته الشخصية.. ودخل بطرس التجربة وسقط وأنكر، وعرف ضعفه، وبكى بكاءًا مرًا، وغسله البكاء من الشعور بالذات والشعور بالأفضلية.

كثير من التجارب يرسلها لنا الرب لكي نعرف ضعفنا. إذ قبل التجربة لا يكون الإنسان فاهمًا لنفسه، ولا لقدراته، فيدخله الرب في النطاق العملي..

بالتجارب، ستعرف أن نقاوتك الحاضرة وعدم سقوطك، إنما سببه النعمة الحافظة لك، وليس قوتك الشخصية.

ليس السبب قدرتك على المقاومة. فلولا أن يمين الرب تسندك، لشابهت الهابطين في الجب. وإن ظننت أنك قد وصلت إلى درجة معينة، أو أن خطية ما لا تقدر عليك، تكون جاهلًا بنفسك، وجاهلًا بالخطية وبالشيطان.

والله يقول لك "لا تغتر بنفسك". ثم يرفع يده عنك، وتضغط عليك خطية بسيطة فتسقط، ويقول لك «إن كنت قد جريت مع المشاة فأتعبوك، كيف إذن تباري الخيل؟!». اتضع، فالتواضع يحفظ نفسك.

كثير من الخطايا لم تقع فيها، لأنك لم تُجرَّب بها بعد..

تقول: "بل أنا قد جُرِّبت ونجحت".. أقول لك: "جائز أنك لم تُجرَّب بشدة وبعنف. أو من الجائز أن تكون قد جُرِّبت بشدة، ولكن الله حارب عنك".

كل الذين جُرِّبوا، أخذوا خبرة  روحية، وفهموا الحياة أكثر من غيرهم. وصاروا أكثر عطفًا على الذين يسقطون.

يعقوب أبو الآباء كان وديعًا وهادئًا وطيبًا، وقد أحبه الله قبل أن يولد. ودخل التجربة، وسقط: خدع أباه وكذب. ثم دخل في خبرة أخرى.

جرب عقوبة الله، وجرب معها محبة الله ممزوجة بالعقوبة..

جرب التشريد والخوف والهرب وخداع خاله لابان له، وخداع أولاده له، وجرب الدموع والحزن، وقال "أيام غربتي على الأرض قليلة وردية. ووسط هذه التأديبات جرب محبة الله الذي يظهر له، ويمنحه البركة والمواعيد، ويصارعه ويقويه، ويحفظه ويرده إلى تلك الأرض، الله الذي تقولون له في الترتيلة:

يا قويًا ممسكًا بالسوط في                كفّه والحب يدمي مدمعك

لم يجرب الله فقط في حلاوة حبه، إنما أيضًا في حلاوة عقوبته.. كيف أن الله يضرب وهو في عمق الحب. كيف يجرح ويعصب، ويمنع ويمنح.

أولاد الله، كلما يدخلون التجارب، يختبرون الله، ويذوقون حلاوته، ويرون يد الله في الأحداث وفي الشدة.

الذين اختبروا الضيقة فقط، ولم يختبروا المعونة الإلهية، هم قوم لم يفتحوا عيونهم جيدًا لكي يبصروا الله.

مثل جيحزي: رأى قوات الأعداء فقط، ولم يرَ المعونة الإلهية. فصرخ أليشع من أجله قائلًا «افتح يا رب عيني الغلام، ليرى أن الذين معنا أكثر من الذين علينا».

الضيقة موجودة، والمعونة الإلهية موجودة. جنود الأعداء، وجنود الرب، البحر الأحمر وعصا موسى. العدو بكل قوته، والرب بكل عنايته وحمايته. يد الله تعمل في هدوء وسط الضيقات.

ما أعجب خبرة "الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون"!

أنا يا رب لا أملك قوة للدفاع. أنا أضعف من أن أقاتل أصغرهم. كثيرون يقولون لي ليس له خلاص بإلهه. ومع ذلك سأقف وأنظر خلاص الرب.. وكيف ذلك؟ «من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين، الآن أقوم – يقول الرب – أصنع الخلاص علانية». نعم! «قم أيها الرب الإله، وليتبدد جميع أعدائك، وليهرب من قدام وجهك كل مبغضي اسمك القدوس».

الذين دخلوا الضيقة اختبروك والذي لا يريد الضيقة، لا يريد أن يختبرك ولا أن يذوق حلاوتك!!

هات يا رب الضيقة. نعم «في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» وسأغلبه كلما يحاربكم..

مبارك أنت يا رب.. سنقف وننتظر خلاصك. وسيغني الملائكة «قد غلب الأسد الخارج من سبط يهوذا»، الذي هو أنت.

لولا أن الثلاثة فتية أُلقُوا في آتون النار المُحمّى، ما كانوا قد رأوا الرب يتمشى معهم، ولا يسمح لقوة النار أن تؤذيهم، إنها خبرة، أن تجرب الرب ماشيًا معك وسط النار.. الملك وجنوده يوقدون النار ويزيدونها حطبًا، ولكن إله النار والحطب، إله الملك والجنود، يمشي معك ويضبط طبيعة النار. كما أن طبيعة النار لم تقوَ على الثلاثة فتية، كذلك الطبيعة الوحشية التي للأسود لم تقوَ على دانيال.. وماذا أيضًا؟

خبرة روحية أخرى جربها يوسف الصديق، كيف يسمح الله للشر أن يعمل، ثم يحوِّل الشر إلى خير.

دخل يوسف الصديق في تجربة السجن، وتجربة العبودية، وتجربة خيانة إخوته له، وتجبة غدر امرأة سيده به.. ثم اختبر كيف تدخل يد الله في الأحداث، فيتحول الشر إلى خير.

إيليا النبي، اختبر كيف عاله الله أثناء المجاعة.. عاله بغراب يأتي له بطعام يومه، وعاله بأرملة لا تملك سوى حفنة من دقيق، وقليل من الزيت.. ليس بالغنى ولا بالقوة ولكن بيد الله العاملة، لئلا يظن أن الذراع البشري هو الذي أنقذه في وقت المجاعة..

شبيه بهذا الوضع ما فعله الله مع القديسين الذي اُتُهِموا اتهامات باطلة، ووقف الله إلى جوارهم وأظهر براءتهم. كالقديس أثناسيوس الرسولي، والقديس أبّا مقار الكبير، دافع الله عنهم، وهم صامتون.

رأينا كيف اجتاز القديسون خبرات الخطية، وخبرات الضيقة، وذاقوا عمل الله معهم. هناك خبرة أخرى، وهي خبرة الطاعة أمام الأمر الصعب التنفيذ..

اجتاز إبراهيم أبو الآباء هذه الخبرة، حينما قال له الرب: «خذ ابنك، وحيدك، الذي تحبه، اسحق، وقدمه لي محرقة على الجبل الذي أريك إياه»... أمر صعب، يبدو فوق الطبيعة، يبدو أصعب من دخول النار، ومن النزول إلى جب الأسود.. ولكن إبراهيم اجتازه بالطاعة وبالإيمان، وجرب كيف أن الله كان أحن منه على ابنه، وكيف رجع ابنه سالمًا.

لذلك في كل طريقك مع الرب، قل له:

ما هي الخبرة الروحية التي تريدني يا رب أن أنالها من هذا الأمر؟ أنا سأختبر الحياة معك، سأختبر الحلو والمر. سأختبر جبل التجلي، وبستان جثسيماني، وجبل الجلجثة.. سأختبر جب الأسود، وسجن يوسف، ونار الآتون، وجوف الحوت.. ومن كل ذلك سأخرج بخبرة روحية معك.




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق  
موضوع التعليق  

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx