كلمة امتحان كلمة معروفة للكبير والصغير، وقد تبعث على شكل من أشكال الخوف، ولكن الحياة لا تخلوا من الامتحانات، فالامتحانات هي أفضل وسيلة لتقييم الإنسان وتقييم حياته وتقييم سلوكه. من خلال الامتحانات يختبر الإنسان مقدار معرفته ومقدار اختباره ومقدار تحصيله، ومقدار ما عرفه ويستخدمه في حياته أو في عمله أو في مجالات حياته، وهذه الامتحانات هي ما نسمّيه "الخبرة"، والإنسان المختبر اجتاز امتحانات كثيرة في حياته. كما أن الامتحانات تكشف جودة الشيء، وفي كل الصناعات في العالم توجد أقسام لفحص جودة المنتج وصلاحيته ومطابقته للمواصفات. المعادن نختبرها بالنار لنعرف مدى نقاوتها.
وأريد أن أذكّركم بما قاله المرتل داود النبي في بداية مزمور 139: «يا رَبُّ، قد اختَبَرتَني وعَرَفتَني. 2أنتَ عَرَفتَ جُلوسي وقيامي. فهِمتَ فِكري مِنْ بَعيدٍ» (آية 1، 2)، وفي نهاية نفس المزمور يقول:«اختَبِرني يا اللهُ واعرِفْ قَلبي» (آية 23)، أي اجعل الاختبار عملية مستمرة. في البدياة قال "قد اختبرتني" بصيغة الماضي، وهنا يقول: "اختبرني يا الله". تصوروا معي داود النبي بكل العظمة التي تعرفونها عنه يقف أمام الله ويقول له: «اختَبِرني يا اللهُ واعرِفْ قَلبي. امتَحِنّي واعرِفْ أفكاري»، انظروا مقدار تدقيقه في حياته الروحية في قوله لله: «وانظُرْ إنْ كانَ فيَّ طَريقٌ باطِلٌ، واهدِني طَريقًا أبديًّا» (آية 24).
وأريد أن أحدد خمسة مجالات تستطيع أن تمتحن فيها ذاتك...
1- امتحن إيمانك
الإيمان والعقيدة يحددان سلوك الإنسان روحيًا، بل وسلوكه في الحياة كلها. حين أقول: "أنا مسيحي قبطي أرثوذكسي" فهذه ليست مجرد كلمات، لكنها واقع وانتماء كامل. يقول بولس الرسول: «جَرِّبوا أنفُسَكُمْ، هل أنتُمْ في الإيمانِ؟ امتَحِنوا أنفُسَكُمْ» (2كو13: 5). حذارِ أن يكون إيمانك شفهيًا أو نظريًا أو ما هو مكتوب في الرقم القومي... امتحن نفسك في هذا الإيمان. أحيانًا يفترض الإنسان أن الإيمان هو مجرد الاعتراف باسم المسيح، أو مجرد لحظة! الإيمان حياة... هل إيمانك بالمسيح هو محور حياتك كلها؟ هل إيمانك بالمسيح يعني أنه هو السيد للحياة، وهو الحاكم لحياتك، وهو الذي يدير عمرك؟ هل إيمانك بالمسيح هو المُنظِّم لحياتك؟
من الممكن أن أضع خطوات لامتحان الإيمان:
+ أولًا يجب أن يكون إيمانك صحيحًا بالتعاليم والعقائد التي تسلمتها الكنيسة عبر تاريخ طويل من ربنا يسوع المسيح، مرورًا بالتلاميذ والآباء الرسل، وانتهاء بنهاية الدهور ومجيء ربنا يسوع المسيح. والذي يعلّم يجب أن يعلّم تعليمًا صحيحًا، والألفاظ والمصطلحات يجب أن تكون دقيقة للغاية.
+ كما أن الإيمان ليس مجرد لاهوت، الإيمان يشمل: التعليم الصحيح، والحياة الطاهرة. فليس إيمانك شكلًا، إيمانك فعل. وعن الحياة الطاهرة يقول الكتاب: «أمّا الشَّهَواتُ الشَّبابيَّةُ فاهرُبْ مِنها، واتبَعِ البِرَّ والإيمانَ والمَحَبَّةَ والسَّلامَ» (2تي2: 22)، اهرب من الشهوات، واتبع البر الذي هو حياة التقوى والمخافة والإيمان والمحبة والسلام؛ الحياة الطاهرة.
+ ليس الإيمان هذا فقط، الإيمان تترجمه في الاهتمام بالآخرين، ونسمّيه «الإيمانُ العامِلُ بالمَحَبَّةِ» (غل5: 6). ويقول لنا القديس بولس: «وإنْ كانَ أحَدٌ لا يَعتَني بخاصَّتِهِ، ولا سيَّما أهلُ بَيتِهِ، فقد أنكَرَ الإيمانَ، وهو شَرٌّ مِنْ غَيرِ المؤمِنِ» (1تي5: 8)!
+ بلا رياء، وأصعب ما يصل إليه الإنسان، سواء الإنسان العادي أو الخادم أو المسئول، أن يكون من الخارج له صوره التقوى ومن داخله ينكر قوتها (2تي3: 5)! ولهذا يقول القديس بولس «وأمّا غايَةُ الوَصيَّةِ فهي المَحَبَّةُ مِنْ قَلبٍ طاهِرٍ، وضَميرٍ صالِحٍ، وإيمانٍ بلا رياءٍ» (1تي1: 5).
+ الإيمان النقي معناه أن يحفظ الإنسان نفسه من أعمال الظلمة، أي أن إيمانك يجعلك لا تكذب، تتجنب الأفكار أو النظرات أو الصداقات الرديئة، فصاحب الإيمان القويم لا يشترك في أعمال الظلمة مهما تكن صغيرة.
2- امتحن الكلام الذي تسمعه
أكثر نشاط يعمله الإنسان كل يوم هو الكلام، سواء فمًا لأذن أو عن طريق المحادثات chatting من خلال التليفون. «أفَلَيسَتِ الأُذُنُ تمتَحِنُ الأقوالَ، كما أنَّ الحَنَكَ يَستَطعِمُ طَعامَهُ؟» (أي12: 11). هل تعرف أذنك أن تميز؟ هل عندك القدرة أن تحفظ أذنيك من الوشايات؟ انتبه من اللسان الواشي، ولا تصدق كل ما تسمعه.
انتبه أيضًا ممن يتملقك، والتملق هو الجرعات الزائدة من المديح، وهو أحد الآفات الرديئة في الخدمة. المديح في حد ذاته جيد، ولكن إن زاد عن حده أصبح ضارًا، لذلك احذر من الذي يتملقك كأنها لدغة حية. هناك من يتغذي على المديح ويبعد مجد المسيح من قلبه، لذلك يقول لنا القديس بولس الرسول: «أقولُ هذا لئَلّا يَخدَعَكُمْ أحَدٌ بكلامٍ مَلِقٍ» (كو2: 4).
انتبه أيضًا من الخبثاء أو المخادعين، وهؤلاء موجودون في كل زمان وفي كل المجتمعات، لذلك أنصحك عندما تقابل أي إنسان لأي موضوع أن تصلي قبلها، وارشم نفسك بعلامة الصليب، وفي فترات صمتك وهو يتكلم صلِّ وارفع قلبك لكي تستطيع أن تفرز الخبث والخداع.
انتبه كذلك من الإنسان المجادل لأن روح الله غير موجود فيه، يتكلم كثير ويملأ الهواء كلامًا، ولا نهاية للجدال. مثل هؤلاء يسبّبون. القديس بولس يقول لنا عبارة جميلة جدًا في هذا الشأن: «والمُباحَثاتُ الغَبيَّةُ والسَّخيفَةُ اجتَنِبها، عالِمًا أنَّها توَلِّدُ خُصوماتٍ» (2تي2: 23).
3- امتحن العمل الذي تعمله
يقول بولس الرسول: «ليَمتَحِنْ كُلُّ واحِدٍ عَمَلهُ» (غل6: 4). هل عملك جيد؟ هل من تعمل معهم صالحون؟ هل لعملك هدف حلو يبني المجتمع؟ وكذلك خدمتك في الكنيسة... هناك قصة أن ثلاثة كانوا يقطعون الأحجار في الجبل، وسألهم شخص عمّا يفعلون. أجاب الأول غاضبًا: "ألا ترى أنني أقطع الحجارة؟"، وقال الثاني: "أنا أقطع الحجارة لأكسب لقمة عيشي وأعول أسرتي"، بنما قال الثالث: "أنا أقطع الحجارة لأشترك في بناء بيت الله". الثلاثة عملوا نفس العمل، ولكن كل واحد كانت له نظرته الخاصة للعمل. هناك من يهمل وكأنه مغصوب على العمل، بينما يوجد آخر يعمل بأريحية وفرحة مهما كان العمل صغيرًا.
ذات مرة كنت أتأمل العمال الذين يبنون جامعة من الجامعات المشهورة في العالم، معظمهم كان تعليمهم محدودًا، لكن هم الذين بنوا هذه الجامعة التي أعطت أرقى الشهادات وتخرج منها الآلاف. إن السبب في تعلم وتخرج العديد من هذه الجامعة هو العمال البسطاء الذين وضعوا حجرًا بجانب حجر وعملوا هذا الصرح، ولذلك يُقال عن الحياة: جيل يبني، وجيل يجني.
الإنسان في عمله يحتاج الأمانة وطول الأناة، والعمل مهما كان صغيرًا فله قيمته، يقول المَثَل: "مسمار ينقذ حدوة".
4- امتحن نفسك قبل ممارسة سر التناول
سر التناول قمة أسرارنا، وكنائسنا مليئة بالقدسات نشكر الله، وأحيانًا تصلي الكنيسة أكثر من قداس في اليوم الواحد، وفي مواعيد مختلفة، المهم أن التناول متاح لأي إنسان في أي وقت. ولكن هل تتقدم للتناول وأنت تشعر بهذا السرور وبرهبة هذا السر؟
قال بولس الرسول: «ولكن ليَمتَحِنِ الإنسانُ نَفسَهُ، وهكذا يأكُلُ مِنَ الخُبزِ ويَشرَبُ مِنَ الكأسِ. لأنَّ الّذي يأكُلُ ويَشرَبُ بدونِ استِحقاقٍ يأكُلُ ويَشرَبُ دَينونَةً لنَفسِهِ، غَيرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ» (1كو11: 28، 29). احذر أم يكون تقدمك للأسرار هو شيء تاخذ دينونة بسسبه. هل شعورك الداخلي بعدم الاستحقاق هو الذي تتقدم به للأسرار؟ أم تتناول في أي بدون استعداد روحي أو جسدي أو نفسي أو فكري أوذهني! الأب الكاهن في بداية القداس في صلوات الاستعداد يقول: "أنت يا سيد تعلم أني غير مستعد ولا مستحق ولا مستوجب لهذه الخدمة المقدسة التي لك..." هل تشعر بهذه الكلمات ويهتز لها كيانك؟ القديس يوحنا ذهبي الفم تكلم كثيرًا عن التهاون في سر الإفخارستيا وقال عبارة جميلة: "بدل أن يكون التناول للبركة والنعمة، يصير للعقاب والدينونة لكل من يتقدم بلا استحقاق". لذلك يصلي الأب الكاهن في نهاية القداس: "اجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نتناول من قدساتك طهارة لأنفسنا وأرواحنا وأجسادنا...".
أكبر امتحان في تقدُّمك للأسرار هو توبتك نقاوة قلبك، ثم حضورك الكنيسة في بداية القداس، والمصالحة مع كل أحد.
5- امتحن نفسك في التعليم
العالم اليوم مليء بالمعرفة، والمعرفة تتضاعف في العالم كل فترة قصيرة جدًا، وتظهر نظريات وأفكار، وتعاليم غريبة لم يشهدها البشر من قبل! فهل تستطيع يا ترى أن تفرز هذا الكلام؟ يوحنا الرسول يقول لنا: «أيُّها الأحِبّاءُ، لا تُصَدِّقوا كُلَّ روحٍ، بل امتَحِنوا الأرواحَ: هل هي مِنَ اللهِ؟ لأنَّ أنبياءَ كذَبَةً كثيرينَ قد خرجوا إلَى العالَمِ» (1يو4: 1). ونقرأ في العهد القديم عن ظهور الأنبياء الكذبة في مواقف كثيرة، وأيضًا في العهد الجديد يحذرنا الرب منهم «انظُروا! لا يُضِلَّكُمْ أحَدٌ... لأنَّهُ سيَقومُ مُسَحاءُ كذَبَةٌ وأنبياءُ كذَبَةٌ ويُعطونَ آياتٍ عظيمَةً وعَجائبَ، حتَّى يُضِلّوا لو أمكَنَ المُختارينَ أيضًا» (مت24: 4، 24).
قديمًا كان الإنسان يتعلم من أبيه وأمه في البيت، ومن المدرسة، وكانت مصادر التعليم محدودة، أمّا اليوم فالإنسان يتعلم من مصادر لا حصر لها، وفي المقابل قلّت جودة التعليم! كل هذا جعل الإنسان مشوشًا، وظهرت تعاليم خاطئة مثل شهود يهوه والسبتيين والأدفنتست وعبدة الشيطان والإلحاد... أفكار كثيرة كلها أفكار ضالة.
امتحن كل شيء عبر حياتك، فلستَ أكبر من داود النبي، بل اعمل مثله، وقل لله: امتحني يا الله واعرف قلبي واختبرني وساعدني أن أمتحن كل شيء يجري أمامي وأستفيد منه.