يسرني في هذا اليوم المُبارك أن أهنئكم جميعًا بعيد ميلاد السيد المسيح. أهنئ به إخوتي المسلمين كما أهنئ إخوتي المسيحيين. ذلك لأن السيد المسيح هو للكل، ويؤمن الجميع بميلاده البتولي المعجزي.
وأود هنا أن أحدثكم عن صفة واحدة من صفاته المتعددة، وهي صفته كمعلم. فقد كانوا يخاطبونه أحيانًا بعبارة "يا معلم.."، وأحيانًا "أيها المعلم الصالح". وقد نادته مريم المجدلية مرة بعبارة "ربَونى" التي تفسيرها يا معلم.
لقد اهتم بالتعليم اهتمامًا فائقًا، وبخاصة لأنه كانت في أيام بشارته أخطاء كثيرة بين معلمي اليهود، وانحرافات في فهم وصايا الله، وقد أراد أن يصححها لهم.. لذلك عمل على توعية الشعب وتعليمه، وتقديم المفاهيم الروحية السليمة ليدركها الجميع.
وهكذا وردت كثيرًا في عظته على الجبل عبارة «سمعتم أنه قيل للقدماء.. أما أنا فأقول لكم..».
كان اليهود يهتمون بحرفية الوصية وليس بروحها، ويركَزون علي مظهرية التدين دون جوهره. فنقلهم السيد المسيح في تعليمه، من الحرف إلى الروح، ومن المظهر إلى الجوهر..
ومن أمثلة ذلك أن اليهود كانوا ينفّذون بحرفية عجيبة وصية تقديس يوم السبت باعتباره يوم الرب في ذلك الحين. من حيث أنهم لا يعملون فيه أي عمل، بل يخصصونه كله لله.. فكانوا يعتبرونها خطية يُعاقب الشخص عليها، إذا حمل في يوم السبت شيئًا يزيد عن وزن معين، أو إذ مشى خطوات معينة أكثر مما يُسمح به في يوم سبت!!
بل أكثر من هذا دخلوا في صراع مع السيد المسيح، حول أمرٍ كانوا يعتبرونه مشكلة وهو: هل يجوز فعل الخير في السبوت، أم يُعتبَر ذلك كسرًا للسبت؟!
أما السيد المسيح فلكي يثبت فساد تعليمهم، كان يقوم بعمل معجزات فائقة للعقل في يوم سبت. فقد أقام لعازر من الموت في يوم السبت. ومنح البصر للمولود أعمى، وكان ذلك في يوم سبت. ومريض بيت حسدا الذي كان مُلقىً إلى جوار البركة منذ 38 سنة، شفاء في يوم سبت، وقال له: «قم أحمل سريرك وأمشِ». فكان السيد المسيح موضع انتقادهم وهجومهم لهذه الأسباب. ولكنه أصر على تعليمه بأنه يجوز فعل الخير في السبوت.
وكان يعلّم في كل مكان. يطوف المدن والقرى، يكرز ويبشر:
كان يعظ فوق الجبال، وكان يعظ في البرية، وعلى شاطئ البحيرة، ووسط الحقول بل كان يعلّم وهو سائر في الطريق، أو وهو في البيوت، أو في لقاءات أو زيارات خاصة.. وأحيانًا كان يدخل إلى الهيكل ويعلّم.. لم يكن له مكان محدد للتعليم، بل في كل مكان كان يشرح ويفسّر ويلقي كلمات المنفعة. وهكذا اُشتُهِر بالتعليم، وبلقب المعلم الصالح..
وفي تعليمه كانت له شعبية كبيرة، وكان رجل الجماهير.
حتى كان الناس يزدحمون حوله ازدحامًا هائلًا. ففي العظة على الجبل كان يخاطب "الجموع". وفي معجزة إشباع الجموع، كان الذين سمعوا وعظه حتى الغروب خمسة آلاف رجل غير النساء والأطفال، أي حوالي عشرة آلالف. وفي هدايته لزكا رئيس العشارين، كان الزحام شديدًا جدًا، حتى أن زكا صعد فوق جميزة لكي يراه.
وعندما شفي المفلوج في كفر ناحوم، سُمع أنه في بيت، فاجتمع الناس حوله من كل مكان. حتى أن البيت لم يكن يسع الناس، ولا حول البيت. وفي أحدى المرات وهو يعظ على الشاطئ، ازدحم الناس حوله فاضطر إلى أن يدخل في سفينة ويعظهم منها.. والأمثلة كثيرة.
وفي تعليمه كان له تأثير عميق على سامعيه...
حتى كُتب في الإنجيل أنه «كان يعلمهم بسلطان وليس كالكتبة» وقيل أيضًا إن الناس «بُهتوا من تعليمه». وإنهم قالوا «لم نسمع من قبل كلامًا مثل هذا»!! ولهذا لم يكتف بسماعه، إنما كانوا يتبعونه أيضًا. وصار المؤمنون به يُدعون تلاميذ، لأنهم كانوا يتتلمذون عليه.
ومن اهتمامه بالتعليم أرسل تلاميذه الخصوصيين ليعلموا. وقال لهم: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم.. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصتكم به. أكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها».. وهكذا جعل التعليم والكرازة والتبشير لكل الأمم، وليس لشعب معين بمفرده...
ورفع أفكار الناس من الأرض إلى السماء، ومن الملكوت الأرضي إلى الملكوت السمائي. وما أكثر أحاديثه وأمثاله عن ملكوت السموات..
وقال لموعوظيه «لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء». وشرح ذلك بما يقدمه الإنسان من أعمال الرحمة ومن عطاء للفقراء والمساكين. وربط المؤمنين بالسماء أيضًا عن طريق الصلاة الدائمة فقال: «صلوا كل حين ولا تملوا». وأوصى باهتمام كل إنسان بمصيره الأبدي والاستعداد لذلك.
وقدّم للناس في تعاليمه مستويات عالية في الروحيات:
حتى أنه قال لهم «كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل». ويقصد بذلك الكمال النسبي، بقدر ما يمكن أن يصل إليه كل شخص، حسب قامته الروحية، وحسب عمل النعمة معه..
ودعاهم أيضًا إلى حياة القداسة ونقاوة القلب، وإلى السلام مع كل الناس، حتى أنه قال عبارته الخالدة «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلي مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم». وقال في ذلك «لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم، فأي أجر لكم؟! أليس العشارون أيضًا يفعلون ذلك».
وقدّم السيد المسيح للناس قيمًا روحية عالية، تُعتبر جديدة على عصرهم:
مثل عبارات الوداعة، والاتضاع، وإنكار الذات، وعمل الخير في الخفاء، وبذلك النفس لأجل الآخرين. وهكذا قال «ليس لأحد حب أعظم من هذا: أن يضع نفسه لأجل أحبائه». وارتفع بالعطاء فوق مستوى العشور إلى قوله «من سألك فأعطه». وهكذا صارت العشور هي الحد الأدنى في العطاء، وليس هي كل الواجب في العطاء.
ومن التعاليم السامية التي علّم بها، هي قوله «كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا أنتم هكذا أيضًا بهم».
واهتم السيد المتسيح بالقلب من الداخل، وليس مجرد الفضيلة من الظاهر.
فعلّم الناس أن يحبوا الله من كل القلب ومن كل الفكر، ليسوا كمجرد عبيد يخافون عقوبة سيدهم، إنما كأبناء يحبون أباهم السماوي ويهابونه. وكل العبادة التي تقدم إليه تكون من القلب أيضًا. وهكذا ذكَر اليهود بما قاله الرب عنهم في سفر اشعياء النبي «هذا الشعب يكرمني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عني بعيدًا».
وهكذا الكلام – جيّده ورديئه – أرجعه إلى القلب أيضًا. فقال لهم «من فيض القلب يتكلم اللسان. الإنسان الصالح من الكنز الصالح الذي في قلبه يُخرج الصالحات. والإنسان الشرير من الكنز الشرير الذي في قلبه يُخرج الشرور. وكل كلمة بطالة يتكلم بها الناس، يعطون عنها حسابًا يوم الدين».
كذلك من جهة العفة قال «من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنا بها في قلبه». ومن جهة محبة الناس جعلها للكل، بلا حدود ولا قيود.
ومن جهة تعليم السيد المسيح، شدّد على العمل وليس على مجرد المعرفة:
فقال «من عمل وعلَم، فهذا يُدعى عظيمًا في ملكوت السموات». وقال أيضًا «من يسمع أقوالي ويعمل بها، أشبّهه برجل عاقل بنى بيته على الصخر.. ومن يسمع أقوالي ولا يعمل بها، يُشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل».
نطلب من الرب أن يعطينا كيف نعمل في كل مجالات الخير، ولا نقتصر على مجرد المعرفة.
ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد. آمين.