اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
الكرازة السنة السادسة والأربعون03 أغسطس 2018 - 27 أبيب 1734 ش     العدد كـــ PDFالعدد 29-30

اخر عدد

اَلقدّيسَة العَذراء وفضيلة الاحتمَال

مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث

03 أغسطس 2018 - 27 أبيب 1734 ش

إن للقديسة العذراء فضائل عديدة جدًا. لعل في مقدمتها الاتضاع، والاحتمال، والتعب سواء في خدمة الآخرين مثل تعبها في رحلة لزيارة أليصابات وخدمتها، مع أنها شابة في حوالي السادسة عشرة من عمرها. وتعبها أيضًا في رحلتها إلى مصر ذهابًا وإيابًا، واحتمالها مشقة الطريق. وتعبها داخل مصر حينما كانوا يطردون العائلة المقدسة من بلد إلى بلد بسبب سقوط الأصنام التي يعبدها المصريون وقتذاك. إلى جوار احتمالها التعب النفساني حينما كانت ترى اضطهادات القيادات الدينية اليهودية لابنها، وأيضًا احتمالها لصلبه.

ولما كان من أهم تكريمنا للسيدة العذراء، أن نقتدي بها، فإنني أود هنا أن أذكر كيف نقتدي بها في الاحتمال. ومنها مقدار الاحتمال، التعب في الخدمة. وقد شرح لنا القديس بولس الرسول كيف تعب في الخدمة أكثر من جميع الرسل، وقال إن كل إنسان سيأخذ أجرته بحسب تعبه.

وهنا أحب أن أنبه الآباء الكهنة إلى أهمية التعب في افتقاد الناس وفي حل مشاكلهم. وكذلك أنبه جميع الخدام إلى الاهتمام بالتعب في الخدمة. وأذكر قصة ذلك الراهب الذي كان يتعب في خدمة الشيوخ وإحضار الماء لهم من مكان بعيد. فلما ثقل عليه التعب رأى وراءه ملاكًا يكتب شيئًا. فقال له الملاك: "إنني أكتب كل خطوة تخطوها في خدمة أولئك الشيوخ، لكي يمنحك الله أجرًا عليها". حينئذ تعزّى ذلك الراهب وازداد بذلاً في تعبه.

ومن أنواع الاحتمال أيضًا، احتمال الظلم. ونذكر مثالًا لذلك يوسف الصديق: الذي احتمل الظلم من أخوته وقد باعوه عبدًا، واحتمل الظلم من امرأة فوطيفار التي اشتكته وادّعت عليه على الرغم من أنها كانت المخطئة. واحتمل الظلم من فوطيفار أيضًا الذي أخذه وألقاه في السجن، على الرغم من أنه كان مخلصًا له جدًا. وبسبب احتمال يوسف الصديق كافأه الله كثيرًا وجعله الثاني في مملكة مصر.

وهنا أيضًا احتمال العوز والفقر والجوع. ولعلنا نضرب مثلاً لذلك باحتمال لعازر المسكين، وفي الواقع لست أجد في سيرة هذا البار أي سبب جعله يستحق أن يتنعم في أحضان أبينا إبراهيم سوى فضيلة الاحتمال هذه، الذي كان يتعذب فيحتمل، صار يتعزى أخيرًا.

ومن نواحي الاحتمال أيضًا احتمال المرض. ونذكر مثالاً لذلك أيوب الصديق الذي احتمل مرضًا مؤلمًا من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. وقال لزوجته «أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟».

وفي الاحتمال أيضًا نذكر احتمال موت الأحباء وبخاصة الذين ماتوا فجأة. ولا شك أن الله قد سمح بذلك لخيرهم. فموتهم هكذا أسهل بكثير جدًا من الموت على فراش المرض لمدة طويلة يتحمل فيها المريض عذابات شديدة.

ومن أسمى أنواع الاحتمال، احتمال المجد والكرامة. ونذكر هنا أن القديسة العذراء قد احتملت مجد التجسد الإلهي في ظهور رئيس الملائكة جبرائيل لها وتبشيرها بعمل الروح القدس فيها، وبأن القدوس المولود منها يُدعى ابن الله. واحتملت الظهورات المقدسة، ومجيء المجوس إليها، وسجودهم لابنها، وتقديمهم الهدايا ذهبًا ولبانًا ومرًا. واحتملت أمجادًا كثيرة تُحيط بابنها.. كل ذلك دون أن تفتخر أو تتعالى، بل كانت «تحفظ كل هذه الأمور متأملة بها في قلبها». حقًا كما قال القديس أنطونيوس الكبير: "هناك من يستطيعون احتمال الإساءة، ولا يستطيعون احتمال الكرامة. لأن احتمال الكرامة أصعب من احتمال الإهانة". ذلك لأن شخصًا قد ينال كرامة أو رفعة في منصب كبير، أو مال وفير. وحينئذ يرتفع قلبه، ويتعالى على الآخرين، وتهز الكرامة روحياته فينتفخ ويتعجرف! ويتغير قلبه وفكره. لأنه لم يستطع أن يحتمل الكرامة.

هناك نوع آخر من الاحتمال قد اختبرته القديسة العذراء مريم. وهو احتمال ترك المشيئة. فما كانت تظن يومًا أنها ستحبل وتلد ولكن لما أخبرها الملاك أن هذه إرادة الله، أجابت في ترك لمشيئتها «لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ».

يذكّرنا هذا بالراهب الذي كان يحب أن يحيا حياة الوحدة والهدوء والسكون والتأمل. ولكن مشيئة الله دعته إلى الخدمة. وكان عليه أن يتنازل عن مشيئته، ويقول لله لتكن مشيئتك.

من أنواع الاحتمال أيضًا احتمال أخطاء الآخرين. وفي هذا ما أكثر ما يعجز الناس عن احتمال اساءات الغير. ويحاولون أن ينتقموا لأنفسهم، ولا يحوِّلون الخد الآخر. وأتذكر أنني قلت يومًا في اجتماع لجنة البر: "ليس واجبنا فقط أن نعطي الناس احتياجاتهم، إنما واجبنا أيضًا أن نحتمل ضعف هؤلاء في ادّعاءاتهم. فالفقر هو الذي ألجأهم إلى ذلك".

من أنواع الاحتمال: احتمال انتظار الرب. فقد يصلي إنسان ويطلب طلبة معينة وتمر فترة طويلة ولا يشعر أنه قد نال مراده. وربما يتذمر على الرب ويعاتبه! إن أبانا إبراهيم وعده الرب أن يمنحه نسلًا، ومرت سنوات طويلة جدًا ولم ينل هذا النسل. فلجأ إلى الزواج من هاجر برغبة ونصيحة من زوجته سارة. في عدم الانتظار نقرأ في المزمور «اَلَّلهُمَّ، إِلَى تَنْجِيَتِي. يَا رَبُّ، إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ»، عبارة «أسرع» تدل على أن المصلي لم يحتمل الانتظار.

ومن أنواع الاحتمال أيضًا: احتمال التجارب، احتمال التأديب، لأنه «إن تزكى ينال إكليل الحياة».

إن الله تبارك اسمه يقدم لنا أكبر مثال للاحتمال، وهو ذاته احتمل الأمم سنوات طويلة وهم يعبدون غيره من أنواع عبادات متعددة، وهكذا احتمل الوثنية حتى عادت وآمنت به. وقد احتمل الشيوعية في روسيا لمدة سبعين عامًا، وهم يشيعون أن لا إله! وأيضًا احتمل الخطاة حتى يتوبوا. احتمل أوغسطينوس، وموسى الأسود، ومريم القبطية. وغيرهم... إلى أن تحول هؤلاء إلى قديسين. ولم يتوبوا فقط، بل نموا في حياة الفضيلة إلى درجات عالية.

واحتمل اللص اليمين طول حياته، إلى أن ذكره هذا اللص على الصليب.

ونرى أمثلة أخرى للاحتمال في موسى النبي الذي احتمل شعبًا متذمرًا لسنوات عديدة، بل أنه أكثر من هذا كان يدافع عنهم أمام الله ويمنعه من إفنائهم.

ونرى مثلًا آخر للاحتمال: داود النبي والملك الذي احتمل أبشالوم ابنه الذي نافسه في المُلك، وأقام جيشًا يحاربه، ودخل على جواريه. ولما قُتِل أبشالوم في الحرب، بكى عليه داود وقال: «يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ! يَا لَيْتَنِي مُتُّ عِوَضًا عَنْكَ!».

ومن أوضح الأمثلة في الاحتمال احتمال الأم لابنها في صياحه وبكائه وفي عناده وتمسكه برأيه. تحتمله في بطنها، وفي حجرها، وفي حملها على كتفها، وفي تعليمه الحياة.

والاحتمال هو وصية إلهية. فيقول الكتاب «مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا» (أف4: 2). وأيضًا «فَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفَاءِ» (رو15: 1).

وأيضًا «المحبة تحتمل كل شيء لأنها لا تطلب ما لنفسها»، ويقول القديس بولس الرسول: «نُشْتَمُ فَنُبَارِكُ. نُضْطَهَدُ فَنَحْتَمِلُ».

أما لماذا نحتمل؟ فإننا نحتمل أخطاء الآخرين، كما احتملنا الله أيضًا، وكما يحتملنا. والاحتمال يدل على الوداعة، وطول البال، وسعة القلب. ونحن نحتمل الغير أيضًا لكي نكسبهم. وكما قال القديس يوحنا ذهبي الفم: "هناك طريقة تستطيع بها أن تقضي على عدوك، وهو أن تحول العدو إلى صديق". ونحن لا نستطيع أن نحول العدو إلى صديق إلا باحتمالنا له، بل وإحساننا إليه حسب وصية الرب.

وأنت إن لم تحتمل فسوف تتعب أعصابك. وقد تُصاب بمرض من ضغط الدم، والسكر، وأيضًا تخسر الناس. وفي عدم احتمالك تكون قدوة سيئة لغيرك. وكما ورد في سفر الأمثال «لاَ تُجَاوِبِ الْجَاهِلَ حَسَبَ حَمَاقَتِهِ لِئَلاَّ تَعْدِلَهُ أَنْتَ»، أي تصير مثله في أسلوب الهجوم والصياح، فتعثر الناس الذين يشاهدونك.

وفي عدم الاحتمال قد يلجأ الناس إلى طرق خاطئة، بزعم الدفاع عن حقوقهم، أو استرجاع كرامتهم.

وأهم سبب للاحتمال هو محبة المخطئين والعطف عليهم وتقدير ضعفهم وظروفهم. وهكذا قيل عن الرب في المزمور «لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا، وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثامِنَا.لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ».

والرب في احتماله لأخطائنا، أحيانًا يلتمس العذر لنا كما قال الرب على الصليب طالبًا المغفرة لصالبيه «لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ».

ومما يساعد على الاحتمال: القلب الواسع، وقوة الأعصاب.




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx