اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
الكرازة السنة السادسة والأربعون28 سبتمبر 2018 - 18 توت 1734 ش     العدد كـــ PDFالعدد 37-38

اخر عدد

سر الصحراء

ماجي حسني

28 سبتمبر 2018 - 18 توت 1734 ش

علا صوت بعضهم في صراخ وعويل: «ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر، إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع. فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع!».

وبعد فترة، عاد قوم آخرون من بينهم يندبون حظهم العاثر قائلين: «من يطعمنا لحما؟!! قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانًا، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم. والآن قد يبست أنفسنا. ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن!».

ثم، ولما عطشوا وطلبوا ماءً ليرتووا، فقبل أن يُستجاب لهم همّوا أن يرجموا نبيّهم الذي قادهم للخروج من أرض مصر، إذ صرخوا في وجهه: «لِمَ اصعدتنا من مصر؟ ألتقتلنا وبنينا ومواشينا بالعطش؟». فما كان من موسى النبي إلا أن صرخ إلى الله، وقد ضاقت نفسه بتمردهم، حتى باتوا يعتبرون أرض المذلة والعبودية القاسية أفضل من حالهم اليوم!

في الحقيقة، ربما  كانوا محقين!

أيّة مقارنة تبدو بين أرض مصر، بما فيها من حياة وصخب وصحبة.. ماء نيل عذب وبحيرات وحقول في الوادي الخصيب تفيض بالغلال والثمار الحلوة... وبين تلك الصحراء الجرداء، الخالية من البشر ماعداهم، بلا جمال يُذكر ولا ترف.. بلا حياة!

وإن بدت المقارنة واضحة كالشمس، إلّا أن مضمون الحياة وجوهرها بين هذه الأرض وتلك، كان يستحق التوقف والتأمل. في باطنه وحقيقته وليس في ظاهره..

+ فالفارق نفسه كان بين الظلم والعبودية، وبين الحرية والكرامة.

+ كان بين ذراع تبطش وتذل، وذراع ترفع وتحمي، بل وتدلّل!

+ بين مظاهر كاذبة لسعادة زائفة في محيط من الزحام والصخب واللهو، وبين هدوء وإن بدا مُملًا، لكنه كان قد أصبح السبيل الوحيد لتذوُّق سعادة وراحة حقيقيتين.

+ بين أرض وإن حفلت بخيرات لا تُشبع أبدًا على وفرتها وتنوعها، وبين قمة جبل يحمل لقاءً مع الله فيه كل الشبع والتلذّذ والغنى..

فمن رحم تلك الخبرة الجديدة، مهما كانت قاسية.. ومن التعمق في حقيقة الأمور كما هي من داخلها، لا كما من الخارج - تسلل الفهم والإدراك الواعي بذلك "الإعداد" اللازم قبل بلوغ أرض الموعد. بدءًا من ألم العبودية والإحساس بثقل نيرها، فمرورًا بصحراء تفتقر إلى كل وسائل التنعُّم، يكون فيها جُلّ الاهتمام ببناء الروح التي كانت على حافة الموت، وإن لم تخلُ من التعزيات الفائقة بين الحين والآخر...

إلى أن يحمل الألم روحًا تحررت من كل شيء، وأسلمت نفسها بالكلية بين يدي القدير، فيبلّغها أرضًا جديدة لا جوع فيها ولا عوز.

فالذين أدركوا سر هذه الرحلة، سر الترك والتخلي، سر تلك "الصلة" -الصلاة- التي تشبع نفسًا انقطعت عنها كل سبل الراحة والتنعم، سر الصحراء وعهدها.. صاروا ينشدون بهذا النشيد كما لجيش متيقظ، واعٍ ومستعد:

"قد هربت من فرعون ومصر والقيود

قاصدا إلى سيناء خلف موسى في الصعود

لكم أشتهي الصعود إلى جبل سيناء

كيما أرفع الصلاة في القمة المقدسة

في قساوة الصعود هَبني صبرًا يا الله

واحتمال المشقات كيما أقتني الصلاة".




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx