اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
الكرازة السنة السادسة والأربعون23 نوفمبر 2018 - 14 هاتور 1734 ش     العدد كـــ PDFالعدد 45-46

اخر عدد

البابا تواضروس الثاني وفضيلة الانجاز

القمص أبراهام عزمي

23 نوفمبر 2018 - 14 هاتور 1734 ش

هذا الأسبوع تحتفل الكنيسة بالعيد السادس لجلوس قداسة البابا الأنبا تواضروس الثاني على عرش مارمرقس الرسول. وقد عاشت الكنيسسة لحظات تاريخية في الأيام السابقة لعيد جلوس قداسته السادس، منها إعادة افتتاح الكاتدرائية المرقسية بالعباسية لتساير عظمة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ومنها أيضًا افتتاح المكتبة البابوية العليا بأرض مركز لوجوس، ومنها التوثيق التاريخي الدقيق لمدارس الاحد في الاحتفالات المئوية العديدة لمدارس الأحد، ومن قبلها افتتاح مركز لوجوس ليواكب العصر ويظهر عظمة الكنيسة القبطية في وسط كل العالم، وغيرها.

ربما لا يتفهم القارئ ما أريد أن أكتبه إذا مُزِجت الإنجازات الروحية بالإنجازات الحسّية، أو إنجازات عالم المادة. عالم الروحيات ينظره من له عيون روحية، أمّا الإنجازات الحسية فينظرها من له عيون حسية.. فجميع الناس الذين لديهم عيون للنظر، أو آذان للسمع أو كلاهما، وهذا ما يملكه غالبية البشر.

أقف جليًا متفكرًا في كم الإنجازات "الحسية" أو إنجازات "عالم المادة" التي قام بها قداسة البابا في فترة ست سنوات فقط. فكر قليلًا في استكمال الكاتدرائية المرقسية العظمى، والتي تعبّر عن فخر ووضع الكنيسة القبطية وسط العالم، قد وعد به قداسة البابا سنة 2014 أنه سيتم الانتهاء منه في أربعة أعوام. ومن قبلها إقامة مركز لوجوس المتكامل من استقبال المئات من ضيوف الكنيسة القبطية وهو فخر للكنيسة، وفيه يمكن استضافة شخصيات عالمية، وبه يُقام جلسات المجمع المقدس على أحدث تكنولوجيا التواصل والمؤتمرات. وأيضًا تشييد المكتبة البابوية الرئيسية على أرض مركز لوجوس، وهي على طراز مكتبات العالم... إنك تقف منبهرًا جدًا أمام شخصية قداسته التي تَعِد وتفي بالوعود بكل دقة وبكل مهارة وقدرة في حسابات النفقة. هل هي شخصية فذة بحسابات العالم أم شخصية إنسان بسيط تقوده قوة إلهية عُليا؟

وعندما تقارن هذه الأيام، من غلو الاسعار بمعدلات تضخم غير معقولة وتدهور الجنيه المصري الرهيب مقارنة بعشرين سنة سابقة، لكنت تقول بالتأكيد إنه من المستحيل القيام بمثل هذه المشروعات الآن، وكان من الأفضل القيام بكل هذه الإنجازات البنائية منذ عشرات السنين "في الرخص".

يقول الرب يسوع المسيح: «وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجًا لاَ يَجْلِسُ أَوَّلًا وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ لِئَلاَّ يَضَعَ الأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ النَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ قَائِلِينَ: هَذَا الإِنْسَانُ ابْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ.» (لوقا 14: 28-30).

فما الذي يوجد في ذهن قداسته ويتم السير عليه بدقة ولا يدركه الآخرون؟ اعتقد أنه شيء معجزي. بحساب العقل لايمكن إنجازه بكل مانرى من ظروف اجتماعية ومادية وسياسية. ولكن عندما يرى قداسته أنه يمكن إنجازه ويحدد له ميعاد استكماله في القريب العاجل جدًا، فهذا يعني أنه يوجد لدى قداسته حسابات مختلفة أدقّ بكثير جدًا من حساباتنا، ويثق فيها قداسته ثقة لا تخيّبها الظروف والأحوال مهما كانت.

أليس هذا ما يقوله ويعظ به أناس روحيون من مختلف الطوائف وعلى مر العصور عن "عمل النعمة" مع خادم الرب "الأمين"، ويصوِّرون كيف عمل الرب "المعجزات" على يد هذا "الخادم الأمين"؟ صدقوني هذه هي الاسطوانة الغير مكسورة التي يستخدمها الوعاظ على مر القرون لوصف أحد رجال الله وكيف يظهر عمل الرب "الإعجازي" على يديه في كل إنجازاته، ولذلك لا يتهاونون أن يطلقوا عليه "راجل قديس". أليس هذا ما يحدث على مر العصور؟

رجل الله في أيّ عصر من العصور الذي يقود شعبه والذي تسنده وتعمل به النعمة في كل إنجازاته، يوجد به خصائص خاصة جدًا وخفية أودّ أن أتأمل فيها:

1) التواصل مع الله دائمًا بالصلوات المستمرة. كما رأينا في الإنجازات إن كانت عظيمة أو بسيطة، والتي قام بها خدام الرب الذين قادوا شعب الله، مثل موسى النبي في تشييده لخيمة الاجتماع كما "أخذها من الرب اولًا"، «فَيَصْنَعُونَ لِي مَقْدِسا لاسْكُنَ فِي وَسَطِهِمْ بِحَسَبِ جَمِيعِ مَا انَا ارِيكَ مِنْ مِثَالِ الْمَسْكَنِ وَمِثَالِ جَمِيعِ انِيَتِهِ هَكَذَا تَصْنَعُونَ» (خروج 25: 8-9). وقبلها كانت قيادته لشعبه في عبوره البحر الأحمر إلى الأمان (خروج 14). ويشوع في إنجازاته بالخروج بشعبه في الانتصارات (يشوع 11). وجدعون ونصرة شعب الله (قضاة 7)، وداود وقيادته لشعبه (1صموئيل 17). ونحميا للقيام بإنجاز بناء سور أورشليم المنهدم (نحميا 1) وغيرهم. المهم أنه فقط بالتواصل المستمر بين قائد الشعب الذي اختاره الرب وبين الرب مباشرة يتم الإنجاز في مشروعات الشعب التي تخص الرب. وعلى النقيض من ذلك تجد أن الرب رفض بدون تهاون قواد شعبه الذين فشلوا في تتبُّع إرشاداته بكل دقة، مثل شاول الملك عندما خالف الرب (1صموئيل 15). وأيضا رفض الرب لأناس أرادوا أن يكونوا قادة للشعب تحت رعاية الرب نفسه ولكنهم فشلوا أن يكون اختيارهم حسب إرشادات الرب مثل قورح وداثان وابيرام الذين أرادوا أن يكونوا قادة لشعب الله تحت قيادة الله نفسه ولكن رفضهم الرب وقتلهم (عدد 16).

2) الإيمان بأن الرب سينجز عمله إلى النهاية بصبره وانتظاره، لأنه وضع على الرب اتكاله «انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاصْبِرْ لَهُ» (مزمور 37: 7). فنجد رجال الله لديهم الإيمان مع الصبر إلى النهاية بكل هدوء وسلام بسبب ثقتهم في الرب لإتمام اعمالهم. انظر كيف تحلّى القديس يوسف النجار بإيمانه وصبره برعاية السيدة العذراء مريم والطفل الرب يسوع، وكان إرشاد الله الوحيد له أن يهرب إلى مصر، ولم يقل له الرب كيف سيهرب وكيف يرجع ومتى يرجع.. كله بالتواصل مع الله بالإيمان والصبر (متى 2).

3) التركيز فيما وضعه الرب لهم للإنجاز بكل سلام ودون التشتيت طول الطريق. وسبب هذه الفضيلة أن رجال الله يثقون في وجود الرب معهم طول الطريق. فلا يتشتت تركيزهم بسبب ظروف معينة ولا يظهر عليهم اضطرابات بسبب تغير بعض الظروف فجائيًا، ولا يغيرون خطة الله الموعود بها لهم بسبب اهتزازات فجائية، ولا يهتزّون بسبب ضيقات تصب عليهم من داخل جماعتهم أو خارجها. هل هذا معناه أنه ليس لديهم مشاعر تتفاعل مع كل هذه الظروف؟ بالطبع لا! على النقيض من ذلك، إنهم دائمًا مرهفو الحس، يبكون بشدة في مثل هذه الظروف، ويصرخون بقوة في مثل هذه الأحوال، ويقدمون أصوامًا خاصة مع كل توسلاتهم؛ ولكن بكاءهم وصراخهم يصدر فقط في مخادعهم، وهم على ركبهم ينسكبون أمام الرب قائدهم، ولا يتركون موضعهم إلّا بعد أن ينسكب عليهم سلام الرب، فيخرجون بكل صلابة وسلام لاستكمال العمل، وتري فيهم القوة والمثابرة والعزيمة التي يكون مصدرها هو الله فقط. ولعلنا نرى ذلك مع عزرا الكاهن «فَلَمَّا صَلَّى عَزْرَا وَاعْتَرَفَ وَهُوَ بَاكٍ وَسَاقِطٌ أَمَامَ بَيْتِ اللَّهِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ إِسْرَائِيلَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالأَوْلاَدِ لأَنَّ الشَّعْبَ بَكَى بُكَاءً عَظِيمًا» (عزرا 10:1). ومع نحميا «فَلَمَّا سَمِعْتُ هَذَا الْكَلاَمَ جَلَسْتُ وَبَكَيْتُ وَنُحْتُ أَيَّامًا وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ أَمَامَ إِلَهِ السَّمَاءِ» (نحميا 1: 4). وإرميا «يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ فَأَبْكِيَ نَهَارًا وَلَيْلًا قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي» (غرميا 9:1). ويوشيا «مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ رَقَّ قَلْبُكَ وَتَوَاضَعْتَ أَمَامَ اللَّهِ حِينَ سَمِعْتَ كَلاَمَهُ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَعَلَى سُكَّانِهِ وَتَوَاضَعْتَ أَمَامِي وَمَزَّقْتَ ثِيَابَكَ وَبَكَيْتَ أَمَامِي يَقُولُ الرَّبُّ قَدْ سَمِعْتُ أَنَا أَيْضًا» (2أخبار 34: 27). وبولس الرسول «أَخْدِمُ الرَّبَّ بِكُلِّ تَوَاضُعٍ وَدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ وَبِتَجَارِبَ أَصَابَتْنِي بِمَكَايِدِ الْيَهُودِ» (أعمال 20: 19). وعن تيموثاوس الرسول يقول بولس الرسول عنه «مُشْتَاقًا أَنْ أَرَاكَ، ذَاكِرًا دُمُوعَكَ لِكَيْ أَمْتَلِئَ فَرَحًا» (2تيموثاوس 1: 4)، وغيرهم...

ولذلك دعوني أقول: نشكر الله محب البشر الذي اختار خادمًا أمينًا ليجلس على عرش مارمرقس الرسول، وليكون قائدًا لشعبه في مثل هذا الزمان، ونرى ونشهد كيف أن يد الله ونعمته تعمل على يديه بدون شك وبكل أمانة في شهادتنا هذه. فبشهادة الكتاب المقدس وعن ما يقوله آباؤنا الوعّاظ فإن بطريركنا، وهو الإنسان الوحيد الجالس على عرش مارمرقس، تؤازره السماء، بصلواته وتذلّلاته وأصوامه من أجل كل شعبه ومن أجل كنيسته الساهر عليها. والله لا يبخل عليه بالتواصل معه وإرشاده المستمر له بأيّة طريقة من الطرق التي يراها الله. وقد وضع عليه الرب أن يحمل هذه المسئولية بكل صبر وتحمل وإيمان بوجود الرب معه. وهو يواجه من الصعاب الكثير داخليًا وخارجيًا، ويسمح بها الرب لكل يضع نفسه في يد الرب على ركبتيه وبدموعه الغزيرة إلى أن تنسكب نعمة الله وسلامه له، ليخرج من انسكابه بصلابة وهدوء يعطيه للجميع ليكمل ما بدأه ويباركه الرب.

ليحفظ لنا الرب بطريرك ذلك الزمان، أبانا وراعينا الأمين البابا تواضروس الثاني.




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx