الله الملك:
إن الله هو الملك لأنه الخالق.
هو خلق السماوات والأرض (تك1:1). وطبيعي أنه يملك ما قد صنعت يداه. ولهذا فهو يملك كل ما في الكون، أي ما في السموات وما على الأرض. وهكذا نرى ملكي صادق يقول «الله العليّ مالك السموات والأرض» (تك14: 19). ويكرّر أبونا إبراهيم أبو الآباء والأنبياء نفس العبارة في (تك14: 22). كما يقول المرتل في المزمور «للرب الأرض وملؤها. المسكونة وكل الساكنين فيها..» (مز24: 1).
ونحن ندعوه ملكًا في صلوات الكنيسة وطقوسها.
في لحن "يا ملك السلام"، في مقدمة الإنجيل حيث نقول "ربنا وإلهنا ومخلصنا وملكنا كلنا..". وفي نهاية الصلاة الربية التي نكررها كثيرًا كل يوم، ونقول في آخرها «لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين» (مت6: 13). وكذلك في صلوات البصخة المقدسة: ومن جهة طقوس الكنيسة، نضع أمام كل المؤمنين أيقونة المسيح الملك وهو جالس على عرشه..
والكتاب بعهديه يعلمنا أن الرب هو الملك.
فقد قيل عنه في (عب1: 8) «كرسيك (عرشك) يا الله إلى دهور الدهور. قضيب استقامة هو قضيب ملكك» (مز45: 6). ونحن نخاطبه بهذه العبارة في ألحان أسبوع الآلام في الساعة الحادية عشرة يوم الثلاثاء.
وفي بشارة الملاك جبرائيل للقديسة العذراء قال عنه «ولا يكون لملكه نهاية» (لو1: 33). وقال عنه دانيال النبي «سلطانه أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لن ينقرض» (دا 7: 14). وحتى نبوخذ نصر الملك الفارسي قال عنه في نفس السفر – بعد معجزة الثلاثة فتية – «الله العلي ملكوته ملكوت أبدي، وسلطانه إلى دور فدور» (دا 4: 3). ويقول داود النبي والملك في المزمور «أنت هو ملكي يا الله» (مز44: 4). أيضًا «يا رب الجنود ملكي وإلهي» (مز84: 3).
فما هي أوصاف الله كملك؟
يقول السيد المسيح في العظة على الجبل عن أورشليم إنها «مدينة الملك العظيم» (مت5: 35).
وفي سفر الرؤيا يدعوه المرتلون «ملك القديسين» (رؤ15: 3)، وقيل عنه أيضًا إنه «ملك الملوك ورب الأرباب» (رؤ19: 16). ويدعوه القديس بولس الرسول «ملك الدهور» (1تي1: 17).
وهو ملك الحياة. يملك شجرة الحياة، ويمنح الغالبين أن يأكلوا منها (رؤ2: 7). وبيده مفاتيح الهاوية والموت (رؤ1: 18). وهو أيضًا القيامة والحياة (يو11: 25).
حقًا إن الله ملك – ولكن حدث تمرد على ملكوته.
تمَرّد عَلىَ ملكوته:
أول من تمرد على ملكوت الله هو الشيطان الذي أراد أن يصير مثل الله (أش14:14). وجذب الشيطان معه كثيرًا من الملائكة فدعوا ملائكته (رؤ12: 7، 9) أي جنوده الذين يحاربون معه، ثم أخطأ بعد ذلك أبو البشرية آدم. وملكت الخطية ومعها الموت «وملك الموت من آدم إلى موسى» (رو5: 14).
وسادت الوثنية في العالم. حتى أن شعب الله نفسه عبد الأصنام. ولما تأخر موسى النبي على الجبل مع الله، صنع هذا الشعب له عجلاً ذهبيًا مسبوكًا وسجدوا له، وقالوا: هذه هي آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر (تك32: 4، 8). وانتشرت عبادة الأصنام في مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل. وفي سائر بلاد العالم سادت الوثنية وتعدد الآلهة. ودُعى الشيطان «رئيس هذا العالم» (يو16: 11) «وإله هذا الدهر» (2كو4:4).
وقال داود النبي في المزمور عن هذا التمرد «لماذا ارتجت الأمم، وتفكر الشعوب بالباطل؟! قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه قائلين: لنقطع أغلالهما ولنطرح عنا نيرهما.. » (مز2: 1-3).
وهكذا كان المؤمنون يصرخون في صلواتهم ويقولون: «قم أيها الرب الإله، وليتبدد جميع أعدائك. وليهرب من قدام وجهك كل مبغضي اسمك القدوس». بل يقولون في المزامير «فلتعترف لك الشعوب يا الله. فلتعترف لك الشعوب كلها» (مز67). بل يقولون له أكثر من هذا «تقلّد سيفك على فخذك أيها الجبار. استلّه وانجح واملك» (مز45). فهل استجاب الرب لهذا؟
الربّ قد مَلَك:
ما أكثر النبوءات التي وردت عن ملكوت الله، وبخاصة في صلوات الساعة السادسة والتاسعة: «الرب قد ملك فلتهلل الأرض.. » (مز97: 1)، «الرب قد ملك فترتعد الشعوب» (مز99: 1)، «الرب قد ملك ولبس الجلال. لبس الرب القوة وتمنطق بها» (مز93: 1).
فمتى ملك الرب؟ ملك على الصليب. حينما اشترانا بدمه وفدانا. وبموته داس الموت، وانتصر عليه بالقيامة. وهكذا صرنا مِلكًا له لسببين: لأنه خلقنا، ولأنه فدانا.
ومنذ بدء تجسده كان يطوف المدن والقرى ويكرز ببشارة الملكوت (مت4: 33؛ مت9: 35). وقد قال للناس «قد اقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مر1: 15). قال إن الملكوت قد اقترب لأنه تم في الصلب...
وعلَمنا الرب أن نقول في صلاتنا كل يوم «ليأتِ ملكوتك» (مت6: 10). فجعلنا نهتم بهذا الملكوت ونطلبه..
ليأتِ ملكوتك:
ما المقصود بهذه الطلبة؟ إنها تحوي من المعاني ثلاثًا: أن يملك علينا، وأن يملك على العالم كله، وأن يأتي في ملكوته في نهاية الزمان ليبدأ الملكوت السمائي.
وسوف نتكلم عن هذه المعاني واحدة فواحدة.
1- المعنى الأول: وهو ما يُعبَّر عنه الرب بعبارة «ملكوت الله داخلكم» (لو17: 21). أي ملكوته على القلب وعلى الحياة كلها. وإذ يملك على القلب، إنما يملك عليه كله، كما قال "«تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك» (مت22: 37؛ تث6: 5). وعبارة «من كل القلب» تعني أنه لا يكون في القلب منافس لله يأخذ مكانه.
فإن كان القلب هو من الأصل لله، فلماذا يقول الله «يا ابني أعطني قلبك» (أم23: 26)؟ إنه يعني أنك لست مُسيَّرًا ولا مضطرًا. فأنت تقدم قلبك لله بكامل إرادتك ورضاك، وتنال عن هذا أجرًا وإكليلاً.
وهذه طريقة الله: يملك كل شيء، ويطلب أن نعطيَه..!
فيسأل الإنسان أن يعطيه قلبه، وأن يعطيه عُشر ماله، وأن يعطيه يومًا في الأسبوع.. أليس المال كله من الله؟ كما قال داود لله يوم الاكتتاب لبناء يوم الله: «أيها الرب إلهنا، كل هذه الثروة التي هيّأناها لنبني لك بيتًا لاسم قدسك، إنما هي من يدك ولك الكل... ومن يدك أعطيناك» (1أي29: 16، 14).
والسيد الرب يوصينا بأن نعطي من مالنا للفقراء، بينما هو المعطي، وهو الذي أعطانا ما نعطيه، وأعطانا موهبة العطاء..
وهو الكلّي المشيئة، يوصينا أن نريد الخير، بينما هو العامل فينا أن نريد (في2: 13). وإنما يحب أن نختار بإرادتنا، لكي تتحد إرادتنا مع إرادة الله.
والإنسان إذا مكّن الله من أن يمتلك كل شيء فيه: القلب والفكر والحواس والمشيئة، يكون قد وصل إلى حياة التسليم. وهو لا يستطيع ذلك إلّا بمعونة من الله. لذلك فهو يصلي قائلاً:
"أعطني يا رب أن أملك وقتي وأعصابي ونفسي، لأن «مالك نفسه خير ممن يملك مدينة». وكذلك أعطني أن أملك جسدي، لأنه لك، فهو هيكل لروحك القدوس (1كو3: 16). وقد أوصانا الكتاب قائلاً «لا تملكن الخطية في أجسادكم لكي تطيعوها في شهواته» (رو6: 12). وحينما أملك يا رب ذاتي، حينئذ أقدمها لك، لأنك مالكها الأصلي الذي خلقها وفداها فاشترها بدمه.."
2- المعنى الثاني: وهو طلبتنا أن يملك الله على العالم كله.
وذلك بانتشار الإيمان في العالم، وأيضًا انتشار الفضيلة والخير.. وهذا ما نقصده بقولنا في صلواتنا «فلتعترف لك الشعوب يا الله. فلتعترف الشعوب كلها».
ولكن عمليًا هل نصلي كلنا من عمق قلوبنا من أجل هذا المعنى؟ هل نصلي من أجل الشعوب التي لا تعرف الله؟ ومن أجل أن يزول الفساد بكل صوره من العالم؟
وهل عبارة «الرب قد ملك» قد تمت عقيديًا أم عمليًا؟ إن التمرد مازال موجودًا. وما أكثر منافسي الله في ملكه. والشيطان يعمل، والفساد ينتشر. والأفكار المنحرفة موجودة وتزداد يومًا بعد يوم. إذًا ليتنا نصلي بكل حرارة وجدّية أن يأتي ملكوت الله على الأرض.
وفي عبارة «ليأتِ ملكوتك» ننكر ما ينادي به البعض من جهة الملكوت الأرضي، أي أن يأتي السيد المسيح ليملك على الأرض ألف سنة. لأن ملكوته هو ملكوت روحي. وقد قال «مملكتي ليست من هذا العالم». وعندما أرادوا أن يختطفوه ويجعلوه ملكًا أرضيًا (يو6: 15) رفض ذلك.
3- المعنى الثالث: الملكوت السمائي:
هذا يكون بعد القيامة والدينونة، حينما يأخذنا الرب معه على السحاب، ونكون في كل حين مع الرب (1تس4: 17). هذا الملكوت يكون في أورشليم السمائية مسكن الله مع الناس (رؤ21). وعنه قال الرب «حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا» (يو14: 3).