اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
السنة السابعة والأربعون04 أكتوبر 2019 - 23 توت 1736 ش     العدد كـــ PDFالعدد 37-38

اخر عدد

محركات الحياة

قداسة البابا تواضروس الثانى

04 أكتوبر 2019 - 23 توت 1736 ش

كلمة قداسة البابا تواضروس الثاني في حفل تكريم قداسته بجتمعة حلوان يوم الثلاثاء الأول من أكتوبر 2019م.

الأساتذة والأستاذاتُ الأجلاء

شباب الجامعةِ الواعد

الحضور الكرام

تحيةً لكم، وسلامًا، ومحبةً، ونموًا، وفرحًا، وإنجازاتٍ، وتقدمًا..

يشرّفُني أن أكونَ بينَكم اليومَ في هذا المحفلِ الجامعيّ الرائع، بين أساتذةٍ يعلّمون الأجيالَ وينهضون بالوطن، وطلابٍ وطالباتٍ يسعون من أجل تحصيلِ المعرفةِ، ليتقدموا بوطِننا ويجعلوا الحياةَ أفضل.. لذا اخترتُ أن أحدثَكم اليومَ عن:

مُحرّكات الحياة

بنظرةٍ سريعةٍ على التاريخ، نرى كيف تحرك في اتجاهاتِ النموِ أحيانًا، والتدهورِ في أحيانٍ أخرى..

ونرى كيف رأى الفلاسفةُ والمفكّرون حركةَ التاريخِ بأشكالٍ مختلفةٍ، ونظرياتٍ متعددةٍ.. فمنهم من رأى أن التاريخَ يُعيدُ نفسَه في دوراتٍ متتاليةٍ متشابهةٍ.. ومنهم من رأى التاريخَ يتحركُ نحو النموِ الدائم ولا يعودُ للوراء.. ومنهم من رأى التاريخَ صراعًا بين الطبقاتِ الاجتماعيةِ أو صراعًا على الموارد الطبيعيةِ أو حروبًا يقودُها الأقوياءُ ضد الضعفاءِ، أو نزاعات على السلطةِ وإثباتِ القوةِ.. وقال أحدُهم إن التاريخَ يتحركُ ولكنه لا يتحسن:

History: Moves but not improves

هل يتقدم تاريخُ البشريةِ حقًا؟ أم يتحركُ فقط من عصرٍ لعصرٍ دون تقدمٍ؟

هل تتحسن حياتُنا إلى حياةٍ أفضل، أم نولدُ لنكبرُ لنشيخُ لنموتُ كما في جيلٍ بعد جيل؟

للإجابةِ عن تلك التساؤلات يبحثُ كل إنسانٍ عن محركاتِ حياتِه، وهل تجعل حياتَه أفضل أم لا؟

فما هي محركاتُ الحياة؟

المحرك الأول: البحث عن المعرفة:

المقصودُ بالمعرفةِ هنا هو العلم.. والبحثُ عن العلمِ والمعرفةِ هو أحدُ المحركاتِ التي تقودُ حياةَ أناسٍ كثيرين وأنتم جميعًا منهم.. فهنا في الجامعةِ تتحركون للبحثِ عن المعرفةِ بكل فروعِها.. تحديدًا العلوم الطبيعية التي تندرجُ تحتها فروعُ العلومِ الطبيةِ والفيزياءِ والكيمياءِ والجيولوجيا والفلكِ وغيرها..

ومنذ بدايةِ تاريخِ  البشرية بَحَثَ الإنسانُ عن العلمِ فتحرك نحو الاكتشافاتِ، وصنع المُخترَعاتِ، وأقام البناياتِ، وشيّد الحضاراتِ، وصنع المنتجات.. وكان محرّكُ العلمِ سببًا في أن صارت حياةُ الإنسانِ أكثرَ راحةً، وأسرعَ نبضًا، وأيسرَ عملًا.. وامتلأت البشريةُ بالاختراعاتِ.. النافعةِ منها، وغيرِ النافعة، بل أتجرّأ وأقولُ: الضارّة.. نعمَ! فقد حرّكَ الطموحُ العلمي بعضَ البشرِ لصُنْعِ آلاتِ حربٍ وتدميرٍ أجّجت الحروبَ وهدمت حياةَ البشرِ بدلًا من أن تبنيها وتجعلَها أفضل.. وعلى مرِّ عصورِ التاريخ وجدنا العلمَ الذي يجعلُ الحياةَ أفضل، والعلمَ الذي يدمّرُ الحياةَ أيضًا..

هذا وقد صرنا كائناتٍ أكثرَ كسلًا وأضعفَ بِنْيَةٍ بسبب كثرةِ المخترعاتا التي عوّدتنا على الراحةِ.. بل أقولُ لكم إننا صرنا نتوقع حلَّ المشكلاتِ الإنسانيةِ في علاقِتنا بعضِنا البعض بضغطةِ زرٍ، كما تعودنا في معاملاتِنا اليوميةِ مع الأجهزةِ الإلكترونية..

فلننظر إذًا كيف نتحرك، ونسلُكُ جميعًا «بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ» (أف5: 15)، أي ننتبه وندقّقُ في بحثِنا عن المعرفةِ والعلمِ، لأننا نتحرك بمحرّكِ الحكمةِ لا الجهل.. الحكمةُ التي تبني.. وتبحثُ عمّا يبني.. وتختارُ ما يبني.. وتخترعُ ما يبني.. ننتبه إلى أن هذا المحركَ يرفعُ من قدرِ الشعوبِ ومن قدرِ الأفرادِ أيضًا، إذا ما اتَبعناه بتدقيقٍ وحكمةٍ..

المحرك الثاني: البحث عن النفس

من أشهرِ أقوالِ السيد المسيح سؤالُ هام: «مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟» (مر8: 36).. وهو سؤالُ يعكسُ أهميةَ البحثِ عن النفسِ البشرية.. أحدُ المحركاتِ الهامةِ للحياةِ هو بحثُ الإنسانِ عن ذاتِه.. ومنذ فجر التاريخ تحرّكَ عقلُ الإنسانِ فتساءل عن الوجودِ وخالِقِه، وعن نفسه، وعمّن خلقَه، وتأمَّلَ الطبيعةَ ليجدَ إجاباتٍ.. وبحثَ في عقلِه وقلبِه عن ماهيتِه وإرادتِه وقدراتِه.. وأنشأ الأفكارَ، وناقش الأقدارَ، وصنع فنَّ الحوار.. حاورَ نفسَه وآخرين، وحاور الخالقَ، وحاول أن يسمع صوتَه..

وهو محركٌ تقودُه علومُ الفلسفةِ ومدارسُها، وعلومُ المنطِق، وعلومُ النفسِ البشريةِ.. وكما بدأ منذ القديم، ما زال المفكرون والفلاسفةُ يبحثون عن الذات.. وكما ذهبَ بعضُهم في اتجاهِ اكتشافِ الذات لتنميِتها وإزالةِ مُعوِّقاتِ نهوضِها، ذهبَ آخرون في اتجاهاتٍ سلبية.. إذ قام بعضُهم بتعظيمِ الذات البشريةِ وتعليةِ المخلوقِ على الخالقِ حتى اعتقدَ الإنسانُ أنه الكائنُ الأسمى الذي يتحكمُ في مصيرِه ومصيرِ الكون.. وقام آخرون بالتحقيرِ من عظمةِ الوجود البشري، وجلعوا حياةَ الإنسانِ بلا معنىً ولا هدف، وادَّعوا كَذِبًا أن روحَ الإنسانِ تهلكُ بهلاكِ جسده.. فانقادت نفوسُ البشرِ لّلّامبالاة، والاكتئابِ، وأشكالٍ من الأذى الجسدي والنفسي قد تؤدي إلى أن يُنهي الإنسانُ حياتَه ويُهلِكُ نفسَه بدلًا من أن يُنمّيها ويُسِعدَها ويُثمِرَ بها..

فلننتبه إذًا ونعلم أنه كما قال الحكيم: «فَيَرْجعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجعُ الرُّوحُ إِلَى اللهِ الَّذِي أَعْطَاهَا» (جامعة 12: 7).. لذا نحن لا نخافُ «مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا» (مت10: 28).. بل نسعى بمحرّكِ البحثِ عن الذات في اتجاهٍ صائبٍ لتربيةِ نفوسٍ صحيحةٍ قويةٍ مهذّبةٍ تتمتعُ وتَسْعَدُ بالحياة..

المحرك الثالث: البحث عن الجمال

محركُ البحثِ عن الجمالِ نجدُه في كلِ الفنونِ من رسمٍ ونحتٍ وموسيقى وشعرٍ وأدبٍ ومسرحٍ وغناءٍ، وكلِ تعبيرٍ جماليّ فنيّ يرقى بالمشاعرِ الإنسانية، ويعبّر عن حالاتِ النفس البشرية من فرحٍ وحزنٍ وحبٍ وبذلٍ ومشاركةٍ وغيرها.. وقد بحثَ الإنسانُ القديمُ عن الجمالِ وسعى للنهضةِ بالفنون، وكان أجدادُنا المصريون من روادِ فنونِ الجمال، كما كانوا من روادِ العلومِ والفكرِ أيضًا..

هؤلاء الفنانون والأدباءُ حَرَّكَتهم المشاعرُ فأنتجوا فنونًا تُحَرِّك المشاعر.. كان بحثُهم دائمًا عن الجمالِ.. ألم يَقُلْ الحكيمُ «صَنَعَ الْكُلَّ حَسَنًا فِي وَقْتِهِ» (جا3: 11).. أي أن الجمالَ قد خُلِقَ حولَنا، وعلينا أن نسعى لاكتشافِه والحفاظِ عليه.. ولكن كما كان هناك مَنْ تحرّك لاستخدامِ الجمالِ في السموِّ بالبشرِ وترقيةِ مشاعرِهم، تحرك آخرون في اتجاهاتٍ مدمّرةٍ للعلاقاتِ الإنسانيةِ وللإنسانٍ أيضًا..

قرأتُ مؤخرًا دراسةً عن تأثير أنواعٍ مختلفةٍ من الموسيقى على مَنْ يسمعونَها لفتراتٍ طويلة.. وبالأخصِّ على الشبابِ من العقدين الأخيرين والذين يستخدمون سماعاتِ الأذن.. وقد أثبتت الدراسةُ أن سماعَ أنواعٍ محددةٍ من الموسيقى – لن أذكرَ أسماءَها هنا – يؤدي بعد فترةٍ إلى عدمِ القدرةِ على سماعِ الأصواتِ المنخفضةِ، أو إلى فقدانٍ كلّيٍّ للسمع.. والأخطرُ أنه بسببِ اعتمادِ تلك الأنواعِ من الموسيقى على التكرارِ الصاخبِ، يصلُ اللحنُ بسهولةٍ إلى مراكزِ السعادةِ في المخ، ويؤثّرُ على الإنسانِ تأثيرًا يشبهُ تأثيرَ المخدِّراتِ، وبالتالي يُمِكنُ من خلالِ تلك الموسيقى قيادةُ تفكيرِ هذا المدمنِ وتغييرِ سلوكِه أيضًا.. هذا بالإضافةِ إلى اكتشافِ العلاقةِ بين أنواعٍ من الموسيقى الحزينة وأمراضٍ نفسيةٍ كالاكتئابِ والقلقِ المزمن والميلِ للوحدة..

أين ذهبَ البحثُ عن الجمالِ؟ ولما انحرفَ محركُ الفنِّ في زوايا مظلمةٍ بدَّلت حياةَ البشرِ كما بدّلها العلمُ والفلسفةُ أيضًا؟

الإجابةُ هي أن هناك محركًا رابعًا ينبغي أن يعملَ بالتوازي مع تلك المحرّكاتِ الهامِة في حياتِنا.. وأُطْلِقُ على هذا المحرك اسم:

المحرك المفقود أو النادر الوجود

لقد خلقَ اللهُ الكونَ والكائناتِ بالمحبةِ، إذ أحبَ الله الإنسانَ قبلَ أن يَخلِقَه.. وكانت إرادةُ الله للبشريةِ أن تَعيشَ في محبةٍ.. فهو الله المحبةُ.. ولكن بحثَ الإنسانِ عن القوةِ والغلبةِ والسيطرةِ والمتعةِ، وانقيادَه لمشاعر سلبية كالحقدِ والغيرةِ والكراهيةِ، جعلت الأخَ يقتلَ أخاه منذ بدءِ البشرية.. وسار التاريخُ بكل محرّكاتِ الحياةِ التي تَحدّثنا عنها بعيدًا عن القصدِ الإلهي في أحيانٍ كثيرة.. وبدلًا مِن أن تُحرِّكَ البشرَ محبتُهم لبعضِهم البعض، غَزَت الأنانيةُ قلوبَهم، ولم يقدّموا حبًا ولا حتى للطبيعةِ التي يحيونَ من خيرِها، والأرضِ التي هي وطنٌ لهم..

في نهايةِ كلمتي أحيّيكم جميعًا، داعيًا الإلهَ القديرَ أن يمنحَكم جميعًا حياةً مثمرةً مليئةً بمحركِ المحبة نحو كلِ البشر، ونحو الطبيعةِ، وأيضًا نحو الوطن.. واثقًا في هذا الجيل اليافِعِ أنهم أصحابُ إرادةٍ ومحبةٍ للحياةِ وللوطنِ.. إنهم الأقدرُ على تحمُّلِ المسئوليةِ والنهوضِ بمصر، لتكون حياتُنا أفضل.. وسأغيّر قليلًا في قصيدةِ الشابي وأقول:

إذا الشابُ يومًا أرادَ الحياةَ ... فلابد أن يستجيبَ القدرْ

وَمَنْ لَم يُعانِقهُ شوقُ الحياة ... تبخّرَ في جوِّها واندثرْ

إليكَ الفضاءُ، إليكَ الضياءُ ... إليكَ الثرى الحالمُ المزدهرْ

إليكَ الجمالُ الذي لا يَبيدُ ... إليك الوجودُ الرحيبُ النَضِرْ..




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx