اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
السة 4814 فبراير 2020 - 6 امشير 1736 ش     العدد كـــ PDFالعدد 5-6

اخر عدد

في البرية

القس إبراهيم القمص عازر

14 فبراير 2020 - 6 امشير 1736 ش

تستمد مسيحيتنا كل عقائدها وإيمانها وعبادتها ومنهج حياتها، من حياة الرب يسوع وسر تجسده. فحياته هي سر إيماننا، وتجسده هو سر خلاصنا، وموته وقيامته هما ينبوع حياتنا.

وتمثل البرية في حياة السيد المسيح، بداية خدمته، وإعلان نصرته في معركته مع الشيطان على الجبل. فبعد المعمودية واستعلان طبيعته الإلهية، اُقتيد يسوع بالروح إلى البرية، فصام أربعين يومًا وأربعين ليلة حتى جاع، فجُرِّب من المشتكي علينا، ثم عاد إلى الجليل منتصرًا، ودخل المجمع في السبت، وقرأ على الشعب نبوءة إشعياء التي تحققت فيه. وهكذا، أصبح الصوم الأربعيني هو إعلان عن مشاركتنا في البرية، برية يسوع، آدم الثاني.

لقد سكن آدم الاول في الجنة حيث الأشجار والجمال، الماء والأنهار، والشركه مع الله. ثم جاءت الخطية لتُخرج الإنسان من الجنة إلى برية العالم القاحلة. لقد لُعِنت الأرض، ولم تعد تُنبت سوى شوكًا وحسكًا. فلقد كان عصيان آدم الأول بأكله من الشجرة سببًا في أن تبدأ الإنسانية رحلة المعاناة، الألم والعرق والتعب. لذلك كان لابد لآدم الثاني أن يجوز برية عالمنا، ليحولها ليس لمجرد جنة، ولكن لملكوته السماوي. لقد كان اتحاده بالآب وطاعته الكاملة، والتي اُستعلنت في الصليب، هي سر نصرته على إبليس. فصومه كان إعلانًا لتجرده الكامل وتقديمه لمشئية أبيه «لتكن لا مشئيتي بل مشئيتك»، لذلك انتصر في كل تجاربه، وجرّد إبليس من كل سلطانه الذي استمده من آدم الأول الذي سمع وأطاع وأكل وسقط. لذلك الصوم الكبير هو زمن الانتصار على تجارب الشيطان التي اختصرها يوحنا الرسول بشهوات العالم الثلاث: "شهوة الجسد، وشهوة العين، وكبرياء الحياة". الصوم الكبير هو مسيرة نحو التحرُّر من الإنسان القديم الذي ورثناه بعصيان آدم الأول، لنصل إلى عيد القيامة ونحن لابسين الإنسان الجديد في آدم الثاني. الصوم الكبير هو دعوة لنزع الإنسان العتيق والتوشُّح بالإنسان الجديد. وهذا يقتضي الدخول إلى برية الرب يسوع، حيث قوتنا ونصرتنا.

والبرية في معناها المجازي ليست سوى برية الإنسان الداخلية بما فيها من نقائص وعيوب وخطايا وعادات وميول رديئة، وبغضة وكبرياء ونجاسة، هذا هو ما ينجس الإنسان حقيقة، لا ما يدخل فمه. الدخول إلى البرية في معناه، هو التجرد من كل ما يعوق كشف حقيقة الذات (المأكل، المشرب، الملبس، الممتلكات..)، من كل ما يُغذي ذواتنا المزيفة، بوقفة حقيقة أمام الله، ونظرة عميقة لذواتنا وللآخر. الصوم هو دخول إلى برية يسوع حيث يجري تغييرنا وتطهيرنا وتقديسنا. فالصوم الكبير، في جوهره، هو مسيرة روحية نستعد من خلالها للعبور، مع المسيح، إلى حياة جديدة، من خلال توبة القلب. ولذلك يشبّه آباء الكنيسة الصوم الكبير بمسيرة الأربعين سنة التي قضاها شعب الله في البرية، للوصول إلى أرض الموعد، أرض الحرية. وللرقم أربعين رمزية هامة، حيث فيه نتذكر نجاة الفلك بعد أن غمر الطوفان الأرض أربعين يومًا، واستلم موسى الشريعة، وتقدس النبي إيليا بصومه. ولقد عال الله شعبه لمده أربعين عامًا، حيث كان هو مصدر شبعهم، وسر حياتهم.

وفي الكنيسة الأولى كانت تتم تهيئة الموعوظين من أجل المعمودية في الصوم، والتي هي شركة سرية في موت المسيح وقيامته. وبالرغم من أننا مُعمَّدون، إلّا أننا لا نزال نحتاج إلى العودة إلى جذور إيماننا وتعهدات معموديتنا من خلال توبتنا، التي تُحسب في ضمير الكنيسة كمعمودية ثانية.


  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx