اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
السة 4810 أبريل 2020 - 2 برموده 1736 ش     العدد كـــ PDFالعدد 13-14

اخر عدد

شِدَّة وتَزول (قِراءَة في مَخطوطِ سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسة)

شريف رمزي - باحث في التاريخ الكنسيّ

10 أبريل 2020 - 2 برموده 1736 ش

ما مِن شَكٍّ في أنَّ الظَّرف الرَّاهِن الَّذي تَمُر به بلادنا والبُلدان الأخرى المُتَضَرِّرة من الوَباءِ، قد وَلَّد حالة من الحُزنِ والإحباط لدى الكثيرين. وتِلك الحالة تتفاقَم يَومًا بعد يَوم نتيجة للإجراءاتِ الصَّعبَة الَّتي فرضَتها الدَّولة لمُكافحة تفشّي الوَباء، وأصعبها على النَّفسِ بالتَّأكيدِ غَلق دور العِبادة ووَقف كافة الأنشطة والاجتماعات الدِّينيَّة، ومِن بَينِها القُدَّاسات.

لكن ومع ذلك، فدروس التَّاريخ تَبعَث فينا روح الأمل والتَّفاؤل واليَقين بأنَّ تِلك الغُمَّة ستنكشِف، وتَعود كنائسِنا إلى سابِق عَهدِها، وأفضَل.

هذه لَيسَت المَرَّة الأولى الَّتي تُغلَق فيها الكنائِس -كما يَحلو للبَعضِ أن يُرَدِّد- ولَيسَت المَرَّة الأولى الَّتي تَنقَطِع فيها الذَّبيحة المُقدَّسة وبقيَّة الأسرار، وتَتَوَقَّف الصَّلوات الجماعيَّة (القُدَّاس والعشيَّة والتَّسبِحَة والبَصخَة). والظَّرف الرَّاهِن -مع صُعوبته- لا يُقارَن بأحداثٍ جِسام مرَّت بكنيسَتِنا ولم تَعصِف بها، بل كانت الكنيسة في كلِّ مرَّة تَخرُج مِنها مُنتَصِرَة لتَحصُد البَرَكات.

عشرات الصَفحات لا تكفي لسَردِ الوقائِع والأحداث الَّتي مَثَّلَت قوَّة قاهِرة حالَت دون اجتِماع المؤمنين حَول الذَّبيحة المُقدَّسة، دون أن يَدُب فيهم الضَّعف الرُّوحيّ أو يَنال مِن قوَّة إيمانهم وثَباتهم في المسيح. وكانَت كلمات بولُس الرَّسول بمثابةِ صَيحَةٍ إيمانيَّة يُرَدِّدونها على الدَّوامِ: «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟» (رو8: 35).

الانفصال عن المسيح لا يكون إلاَّ بالاختيارِ، أمَّا القوَّة القاهِرة فلا تَنال من اتِّحادِنا به وثَباتنا فيه.

أمّا وقد انحازَت الكنيسة للصَالِح العام، والحِفاظ على سَلامةِ أبنائِها، فذلك مَوقِف يُحسَب لها، ويُضاف إلى سِجلِّها المُشَرِف في خِدمةِ الوَطَن، وقبله خِدمَة العَقيدة، بما يَتَماشى مع مَفاهيم الإيمان القَويم، وتَعليم الإنجيل: «السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ» (مر2: 27).

والمؤَكَّد أنَّ كنيستنا -مُنذ أن كانت تَحبو في عُصورِها الأولى- لم تَعرِف استقرارًا أو انتظامًا للعِبادة فيها، دون أن يتَخلَّل ذلك فترات انقطاع وتَوَقُّف، وذلك الانقطاع كانت حُدوده الزَّمانيَّة والمَكانيَّة تختَلِف تِبعًا للظُّروفِ.

أمَّا تِلك الظُّروف فتَنَوَّعَت ما بين كوارثٍ كالأوبِئة والمَجاعات، وأخرى تتعلَّق بالسِّياساتِ العَنيفة الَّتي اتَّبَعها الأباطرة والحُكام في عُصورٍ مُختَلِفة تجاه الكنيسة. ونتيجة لتِلك الظُّروف كانت العِبادة الجماعيَّة والمُمارسات الطَّقسيَّة تتَوَقَّف إمَّا كُلِّيًا أو جزئيًّا.

توقفت العِبادة في فتراتِ اضطهاد الوثنيِّين، ومن أمثِلةِ ذلك الاضطهاد الَّذي شَنَّه الإمبراطور فاليريان (253–260م)، في حَبريَّة البابا ديونيسيوس، البطريرك 14 (247–264م)، وتَخلَّله غَلق للكنائسِ وتَوَقُّف للعِبادةِ الجماعيَّة. إلى أن مات فالريان وتمَلَّك بعده بوبليوس غاليينوس (253–268م)، فأصدَر مَرسومًا يَقضي بوَقفِ الاضطهاد، والسَّماح للمَسيحيِّين بإقامةِ شعائِرهم، جاء فيه: ]بوبليوس قَيصَر الضَّابِط المُحِبّ للإله المَلِك، يَكتُب لديونيسيوس البَطريَرك وديمتريوس (أسقف أنطَاكِيَة) وباقي الأساقِفة، ويأمُر بمُراعاتِهِم. ولِمَن كان يُبغِضهم فيَبتَعِد عَنهُم. ولتُفتَح لَهُم بِيَعَهم ويَتَقوُّوا بكتابِنا هذا، ولا يَلحَقها بَعد اليَوم عَذاب، ولا حُزن ولا غَمّ بعد هذا الوَقت. لكن يُكَمِّلوا خِدمَتهم وصَلَواتهم، فقد عَتَقناهُم.. ويُصَلُّوا صَلَواتهم ويُقَدِّسوا قُدَّاساتهم[.

وحالة عَدم استقرارِ العِبادة الجماعيَّة بالكنيسة في عُصورِها الأولى -بشَكلٍ عام- يُعَبِّر عَنها مَخطوط «سِيَر البِيعَة» في سياقِ الحَديث عن البابا ثيوناس، البطريرك 16 (283–300م)، فيقول: ]وبَنى بِيْعَة حَسَنة على اسمِ السَّيِّدة مرتمريم وسُمِّيَت ثيوناس. وإلى حَدِّ هذا كانَت الشُّعوب تُقَدِّس في المَغايرِ والكُهُوف والمَواضِع المَخفيَّة، مِن ماري مَرقُس الإنجيليّ إلى السَّنَةِ الثَّالِثة مِن أيامِ بَطريَركيَّة ثيوناس، مائتي وتِسعَة عَشَر سَنَة[.

وتوقفت العِبادة في فتراتِ اضطهاد الخلقدونيِّين، ومن أمثلةِ ذلك ما جَرى في عهدِ الإمبراطور البيزَنطيّ جستنيان الأوَّل (527–565م)، وحبريَّة البابا ثيؤدوسيوس الأوَّل، البطريرك 33 (535–567م)، والَّتي قضى مُعظَمها في المَنفى، وتَخلَّل ذلك صدور أمر إمبراطوريّ بغَلقِ كنائس الإسكندريَّة ومَنع الأقباط مِن دُخولِها.. ]فلمَّا وَصَل السِّجِلّ المَملُوء إثم إلى المَدينَةِ، كان حُزن وضيق روح لَيس له حَدّ ولا صِفة على الأرثُذكسيِّين، ودام سَنَة كامِلة وبَعد ذلك، وهُم حَزانى بغَيرِ قُربان، ولا بَقِيَ لَهُم كَنيسة يَأخُذوا فيها السَّرائِر، وأبوهم الشَّهيد ثاوضوسيوس في النَّفيِ، لكن كُتُبه كانَت تَتَواصَل إلَيهِم بذِكرِ الأمانَة والتَّعزيَة والتَّصبير. فلَحِق البِيْعَة تَعَب عَظيم وحُزن، وكانَت أبوابها مَغلوقَة، ولَيس لَهُم قُدرة على تَعميدٍ أيضًا[.

وذلك النَّمَط السِّياسيّ نفسه -على الأرجَحِ- هو الَّذي ساد في أغلَبِ فترات الحُكمِ البيزنطيّ. فقد شَهِد عهدِ الإمبراطور هِرَقل (610–641م)، أحداثًا مُماثِلة، اُضطُر معها البابا بنيامين، البطريرك 38 (623–662م)، للاختباءِ مُدَّة عَشَر سَنوات.. ]وكان مع القدِّيس المَغبوط أنبا بنيامين إنسان مَملُوء نِعمَة، حَكيم وَديع كالحَمام، اسمه أغاثون، وكان مِن مَريوط، وهو قِسّ في طميرا. وكان هذا في زَمانِ شَدائِد هِرَقل يتَزَيَّ بزيّ العَلمانيِّين بمَدينةِ الإسكندريَّة، ويَطوف لَيلًا يُثَبِّت الأرثُذكسيِّين ويَقضي حَوائِجهم ويُعطيهم مِن السَّرائِرِ المُقَدَّسة. وإذا كان النَّهار حَمَل على كَتِفه قُفَّة مَملُوَّة عُدَّة النَّجَّارين لِئَلاَّ يَعتَرِضوه ويَقول إنِّي نَجَّار، ويَجِد بذلك الوَسيلة إلى دُخولِ دُور الأرثُذكسيِّين ويُناوِلهم السَّرائِر، ويُصَبِّرهم ويُعَزِّيهم عَشَرة سِنين[.

وتوقفت العِبادة في فتراتِ الاضطهاد الَّتي أعقَبَت دُخول العَرَب مصر، في عُصورٍ مُختَلِفة..

ففي ولاية عَبد العَزيز بن مَروان (685–705م) توَقَفَت العِبادة الجماعية لفترةٍ، إلى أن جَلَس على الكرسيِّ المرقسيّ البابا إسحق، البطريرك 41 (686–689م) ]وعلى يَدَيهِ تجدَّدَت قُدَّاسات البِيَع الأرثُذكسيَّة الَّتِي لم يَتَمَكَّنوا أن يَفعَلوها أوَّلًا[. لكن سُرعان ما أعلن الوالي عَبد العَزيز انقلابه على المسيحيِّين، فاستدعى أربعة وسِتِّين أسقفًا من كراسيِّهم واحتَجزَهم ثلاث سِنين بالفسطاط، وذلك في حبريَّة البابا سيمون الأوَّل، البطريرك 42 (689–701م).. ]ثُمَّ أنَّه أمَر في ذلك اليَوم بأن تُمنَع قُدّاسات النَّصارى، وقال: أنَّهم ضالِّين يَجعَلوا لله وَلَدًا، ويَقولوا مَقالات كَثيرة في دينِهِم[.

وكان الولاة يَتَبارون في هَدمِ الكنائِس وتَعطيل العِبادة فيها. فرُوِي عن البابا يوأنِّس (يوحَنَّا) الرَّابع، البطريرك 48 (777–799م) أنَّه ]لمَّا دَخَل إلى البِيْعَةِ نَظَرَها بغَيرِ سَقف، فتَنَهَّد وقال: يا رَبِّي وإلَهي يسوع المسيح أنت قُلت: ”إنَّني أبني بِيْعَتي على الصَّخرةِ ولا تَقهَرها أبواب الجَحيم“ (مت16: 18)، فالآن يا رَبّ أنا أطلُب إلَيك وأرغَب إلى رَحمَتِك أن تُجَدِّدها بالنِّعمَةِ، وتَضَع كلّ مَن يُقاوِمها مِن المُلوك المُنافِقين وتُريهم ضَعفهم سَريعًا وتُبطِل مُؤامَراتهم، وتُنعِم عليّ بسُلطان طالِب الحَقّ يُعين على إعادة البِيَع[.

وفي حَبريَّة البابا قزمان الثَّاني، البطريرك 54 (851–858م)، ذاق الأقباط الأمَرَّين على يَدِ الوالي عَنبَسة بن إسحاق الضَّبيّ (852–856م)، ]حَتَّى أنَّ النَّصارى (المَسيحيِّين) ما كانوا يَتَمَكَّنون مِن الصَّلاة في البِيَعِ إلاَّ بصَوتٍ خَفيّ، فإذا جاز إنسان بالبِيْعَةِ لا يَسمَع صَوت كلام مَن يُصَلِّي. ومَنَعَهُم أن يُصَلُّوا على نَصرانيّ إذا مات، وقَطَع ضَرب النَّاقوس، وصار مِثل ديقليطيانوس الَّذي فَتَح بيوت البَرابي وأغلَق البِيَع.. ولم يُقنِعه ذلك حَتَّى بَدأ بمَنعِ النَّصارى مِن القُدَّاسات وألاَّ يُقَدِّسوا بالجُملَةِ. وأمَر بمَنعِ النَّبيذ في جَميعِ أعمالهِ وبخاص مَدينة مصر، حَتَّى أنَّه لا يَظهَر بالجُملَةِ ولا يُباع ولا يُشتَرى، وافتَقَر جَماعة مِمَّن كان يَتَّجِر فيه لأجلِ كَسر النَّبيذ. وفَعَل هذا كلّه قَصدًا في أن لا يوجَد خَمر يُرفَع للقُدَّاس، وعَدِم حَتَّى صارَت النَّصارى يأخُذون عيدان الزَّرجون (شَجر العِنَب) يَبلونَها بالماءِ ويَعصُرونها حَتَّى لا يَعدَموا القُربان[.

وفي حَبريَّة البابا شنوده الأوَّل، البطريرك 55 (858–880م)، عَمَد والي الخَراج بمصر أحمد بن المُدبِّر، إلى اضطهاد الأقباط بكلِّ وسيلة وابتزاز أموالهم.. ]وكان الرَّجُل الظَّالم يَتفَكَّر ما يَفعَل بالبِيْعَةِ والدِّيارات والبَطريَرك والأساقفة، ومِن سوءِ فِعلِه أنفَذ إلى كلِّ مَكان نوابًا عَنه قَبَضوا على قَوَمَة البِيَع ويُحصون ما عِند كلّ واحِد مِنهُم مِن آلَةِ البِيَع ليُحمَل إلَيهِ.. وكذلك بِيَع مصر قَبَض عَلَيها وأحصى آلَتها، حَتَّى أنَّه أمَر أن تُغلَق البِيَع الَّتِي بِها ولا يُمَكِّنوهُم مِن القُربانِ إلاَّ في بِيْعَةٍ واحِدة[.

وفي حَبريَّة البابا زخاريَّاس (1004–1032م)، شّن الخليفة الفاطميّ الحاكِم بأمر الله (969–1021م)، اضطهاده العنيف ضِدّ الأقباط والَّذي دام لتِسعِ سنين.. ]وكان أيضًا أكثَر النَصارى يَدخُلون إلى البرِّيَّة دَفعَتَين في السَّنة، عيد الظُّهور الإلهيّ الَّذي هو الغطاس وعيد الفِصح القيامة. وكانوا يَشتَهون القربان مِثل الطِّفل للبنِ أُمّه. وكان على النَّصارى في هذه التِسع سِنين ضيق عظيم وظَرد وشَتم ولَعن وكانوا يَبصُقون في وجوهِهِم.. مِنها ثلاثة سِنين لم يَقدِر أحد أن يَعمَل ضورُن (قُربان) في بلادِ مصر إلاَّ الدِّيارات، فلم يَصبِر الأخيار على ذلك ولا على البُعدِ عن السَّرائِر المُقَدَّسة، فسألوا الولاة حتى أطلقوهم في اللَّيلِ يتَقَرَّبون ويَجتَمِعون في ليالي الأعياد الكِبار في البيَعِ الخراب ليُقَرِّبوا لَيلًا.. وبعد ثلاث سِنين أُخَر بَدأوا يَعمَلون بيَعًا في البيوتِ سِرًّا ويُكَرِّسونها، وكانوا يُصَلُّون فيها ويتَقَرَّبون[.

هذه بعض أمثِلة من تاريخ كنيستنا، تُظهِر لنا كيف كانت الظُّروف القاهِرة تَحول دون انتظام العِبادة فيها لفتراتٍ مُتفاوِتة قد تَطول أو تَقصُر، لكن مِن دون أن يَفُتُّ ذلك فِي عَضُدِ الأقباط أو يَنال مِن عَزيمَتِهِم. وكانَت القُدَّاسات تُقام في الأديرةِ كُلَّما أمكَن، وأحيانًا في البيوت أو بين حُطام الكنائس لعَدَدٍ محدود من المُصَلِّين، وفي بعضِ الأحيان كانت الذَّبيحة تُحمَل سِرًّا إلى المؤمنين في بيوتِهِم. أمَّا التَّعليم فكان يَرتَكِز على الرِّسالةِ الدَّوريَّة الَّتي يَبعَث بها الأبّ البطريرك إلى أولادهِ، يُثَبِّتهم ويَعزيّهم ويُصَحِّح المفاهيم المَغلوطة لمَن حاد عن الفَهمِ الإيمانيّ السَّليم.

نَشكُر الله أنَّه أعطانا مِن الوَسائلِ ما يَحفَظ لنا وحدَتنا في الجَسَدِ الواحِد، ويُقَوِّي رَجاءنا وثِقَتنا في أنَّ تِلك الشِّدَّة سُرعان ما تَزول.

(المَصدَّر: كِتاب سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسة، بحَسبِ أقدَم المَخطوطات (تحت الطَّبعِ)، دراسة وتحقيق/ شريف رمزي.)



  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx