اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
السة 4811 ديسمبر 2020 - 2 كيهك 1737 ش     العدد كـــ PDFالعدد 47-48

اخر عدد

(قصة قصيرة) يحيا الموت

الأنبا أندراوس - مطران أبوتيج

11 ديسمبر 2020 - 2 كيهك 1737 ش

كان اليوم عملًا شاقًا ومقابلات هامة لبعض أولادي الروحيين، وكان عليّ في آخر المطاف أن أقابل امرأة شابة في العشرينات من عمرها ترمّلت منذ يومين، وقد حاولت أن أهوِّن عليها الأمر مؤكدًا لها أن الله سيرعاها. وأثناء كلامي معها فاجأتني بقولها ملتاعة: "تعرف أن أسوأ ما صنع الله هو الموت"، فابتسمت لها بحنان أبوي، وفهمت من وجهها أن الرسالة وصلت وما كنت أريد أن أقوله لأنها وضعت وجهها في الأرض خجلًا، على كل الأحوال انتهت المقابلة بكل ودّ.

وصعدتُ لمسكني، وليس في رأسي سوى رنين كلماتها "إن أسوأ ما صنع الله هو الموت.. إن أسوأ ما صنع الله هو الموت". حاولتُ أن أهرب من هذا الفكر، وفي حجرتي جلست على أحد الكراسي أسند رأسي قليلًا لعلي أستطيع أن أنزع هذا الفكر عني، ولكني وجدت سحابة تظلل فكري وكأني قد دخلت في غيمة، وكأني لست أعلم أفي الجسد أنا أم خارج الجسد. وجدت تغييرًا كما يغيّرون المناظر في أيّة مسرحية، وكأني في عالم آخر ونوع من البشر آخر أيضًا، ووجدت بجانبي شيخًا وقورًا ذا لحية بيضاء طويلة، وعرفت أن هذا هو المرشد الذي سيكون معي فيما أنا فيه.

وعلى الفور سمعت منه قولًا: "سترى ما يكون لو كان...". وعرفت أنني في زيارة لأسرة من أهل هذا الزمان، وأن الأسرة التي أزورها في بيت ليس بالكبير، ويعيش في هذه الأسرة ما بين 800 إلى 1000 شخص.

وعرّفني المرشد أيضًا أن الجدود والجدات من أجل كثرتهم فهم يعرفونهم بالأرقام، وعرّفني المرشد بالسيدة مديرة البيت وكان معها الجد رقم 3. ودخلت فجأة الى المكان امرأة أو فتاة، وعاتبها الجد على قِصَر "جيبتها" فقالت له الفتاة بدلال: "أريد ان أتزوج يا جدو". فرد الجد: "الآن أنت سنك 1500 سنة، وقد أصدرت الحكومة مؤخرًا قرارًا يرفع سن الزواج الى 2000 سنة". فنظرت الفتاة إلى الجد قائلة: "وهل سأنتظر 500 سنة أخرى يا جدو؟"، واستأذن الجد في الانصراف واصطحب معه الفتاة.

ثم تكلمت السيدة مديرة المكان، وعرفت المرأة أنني زائر لهم، ويبدو أن المرأة ظنت أنني أحد المسئولين فبدأت بالشكوى، وحكت أن عليها أن تذهب الى سوق المدينة في حوالي الساعة الثالثة صباحًا لكيما تلحق كمية بسيطة من الخضروات، وقالت: ونفس الوضع بالنسبة لما نستطيع الحصول عليه من اللبن، وأن الكميه لاتكفي حتى للأطفال. وساقني هذا أن أسأل السيدة عن كيفية تحضير الطعام، فقالت إننا في هذه الأيام نطبخ على (كانون) بحرق قطع الخشب وبعض الأغصان والتي نحصل عليها أيضًا بقدر من الصعوبة. وأضافت المرأة "إن الأغنياء يقتنون مفاعلًا ذريًا صغيرًا يكفي لاحتياجات المنزل ولكنه غالي الأسعار وفوق طاقتنا"، سألت: "وماذا عن البترول؟"، وهنا أجاب المرشد: "لقد نفذ يا سيدي البترول من العالم، لقد حاربوا به، وبالأكثر حاربوا من أجله".

وأخذني الشوق أن أسأل: "وماذا عن المياه؟"، فقالت السيدة: "إن هذا عذاب آخر! فالحكومة لا تستطيع أن تفتح لنا المياه كل أيام الأسبوع، يومين أو ثلاثة في الأسبوع لنأخد ما لا يكفينا من المياه، وباقي الأيام تفتح لأحياء أخرى".

وسألت من جديد: "وماذا عن التدبير المالي للأسرة؟"، فتنهدت السيدة قائلة: "إن دخل الأسرة من مرتبات العاملين ومعاشات الجدود في الأسرة، وما نعلمه أن الحكومة مازالت تدفع معاشات لأسر العمال الذين بنوا الأهرامات"، وأردفت: "إننا كثيرًا ما نذهب للحصول على الأموال ويُقال لنا إن الخزينة فارغة وعلينا الانتظار، وأحيانًا ما يطول هذا الانتظار للحصول على ما يلزمنا من المال".

هنا وترامى إلى سمعي أصوات صراخ خافت، وبدأت أشتم بعض رائحة غير حسنة، وقبل أن أسأل وجدت طفلًا صغيرًا يأتي وعالقة به الرائحة، وكان يبكي بمرارة ويعاتب أمه وهي مديرة الأسرة التي تتكلم معي، وكان يعاتبها أنها وضعته مع المتهالكين، لكن ارتبكت الام وقالت: "يا عابد -وهذا اسمه- إن جدتك 3 وكانت طبيبة قالت إن عندك فيروس كوفيد 230، وأنه لاعلاج له حتى الآن". فقاطعت الأم لأسأل ماذا يعني المتهالكين؟ لكن نظرت الأم للمرشد وكأن هناك شيئًا تريد إخفاءه عني. ولما كانت ملامحي تشير أني أريد أن أعرف، قالت بخجل إن الجدود والجدات الأرقام الكبيرة والذين ضعفت صحتهم كثيرًا، ليس عندنا لا طعام يكفيهم ولا دواء يشفيهم، فنضعهم على بعضهم البعض في بعض الحجرات وهم يقضون أيامهم، ولهم سنوات طويلة بهذا الوضع في حجرات المتهالكين.

قلت مرتعدًا: "أما من نهاية لهذا العذاب؟"، قال المرشد: "للأسف لا!". وقالت المرأة: "إنه عذاب لهم ولنا أيضًا، إنه عذاب بلا نهاية. والأكثر من هذا يا سيدي أن الإنسان عندنا عندما يصل لسن كبيرة ويفكر في مصيره الأخير أنه حجرات المتهالكين، فيُصاب الكثيرون بالاكتئاب بسبب هذا المصير".

ولكني سألت المرشد: "كم تعداد العالم الآن؟"، قال: "نحو 3 تريليون شخص". وعندما إندهشت قال لي المرشد: "يا سيدي نحن نحصي من أيام آدم إلى اليوم". ويبدو أن السيدة أرادت أن تشغلني عن موضوع حجرات المتهالكين فسألت عابد: "كيف شُفيت؟"، فقال لها: "قد شفاني الله يا أمي".

قال المرشد: "عابد من الأطفال الأذكياء، أطفال هذا الجيل الذين وُلِدوا وفي أيديهم الموبايل، وفي يدهم الأخرى التابليت".

وعاد عابد للحديث مع أمه: "ألم يكن من طريق آخر غير أن تضعيني مع المتهالكين؟"، وأردف: "لماذا لم تذبيحني مثل الدجاج الذي نأكله؟ لماذا لم تذبحيني وتريحيني؟"

قالت الأم: "يا عابد البشر يعانون ولا يموتون، البشر لا يعرفون الموت يا عابد".

تهلّل الطفل قائلًا: "أمي بعد كل الذي أراه، وبعد الأيام المُرة التي قضيتها في حجرات المتهالكين، أستطيع أن أهتف بكل قلبي: يحيا الموت.. يحيا الموت".

هزّني شيء فأفقت مما كنت فيه، ووجدت نفسي أسجد للأرض شكرًا لإلهنا العظيم الذي وضع لنا هذا الموت بكل هذا الجلال العظيم.




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx