أكتب عن حفيدي، من أبناء الجيل الجديد، جيل التكنولوجيا، جيل التعلُّم عن بعد. فجأة وبدون مقدمات، اقتحمت "الكورونا" العالم، وبدأ التعامل الافتراضي خاصة في مجال التعليم لتحصيل المناهج الدراسية، وكوسيلة رئيسية للتواصل الاجتماعي مع الآخرين، وأصبحت الأسرة مسئولة عن الولاية التعليمية بديلًا عن المدرسة، رغم عدم إعداد الوالدين لهذه الولاية من جهة إدراكهم للأصول التربوية، ومتابعة تحصيلهم والتعرف عل مستواهم التعليمي! وأصبحنا أمام جيل يحتاج إلى مشروع قومي لوضع سياسة تربوية كاملة، ومنظومة متكاملة وشاملة، يناقشها جميع أطراف العملية التعليمية والتربوية من آباء وأمهات، ومعلمين، وإخصائيين نفسيين واجتماعيين، وخبراء في مجال تكنولوجيا التعليم، لضمان سلامة الاستخدام، وتوعية الأسرة بالاستخدام الأمثل والآمن للتكنولوجيا، وكيفية حماية أولادنا من المخاطر، خاصة أمام هذا الجيل الذي وجد نفسه فجأة منفتحًا على العالم كله، وأمامه ما يشاء من مشاهدات وبرامج وثقافات متنوعة، ممّا يصعِّب الرقابة عليه طوال اليوم بعد أن اصبح التعليم بالمنزل.
أضف إلى ذلك أننا أمام جيل تميّز بقدرات عقلية، وذكاءات متعددة، وقدرات فائقة في الفهم... الخ. هذا ما تابعته بنفسي من خلال متابعتي الميدانية، كأحد الباحثين بالمراكز البحثية التربوية والاجتماعية، على مدى خمسين عامًا، ومن جهة أخرى تلمّست هذا التغيير السريع في المظاهر الحياتية لأحفادي. ودعني عزيزي القارئ أسوق لك على سبيل المثال، ما لاحظته مع أحد الأحفاد الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره بعد، والمقيم بأمريكا، ورغم زياراتي القصيرة له لعدة أسابيع، وجدت نفسي أتحول أمامه إلى تلميذ في مدرسة حفيدي -بلا مبالغة- أجتهد في مراقبة قدراته في التعامل مع أجهزة الإلكترونيات بمهارة وسرعة فائقة تفوق قدراتي الإدراكية. ولا أبالغ فيما أقول، فلقد حاولت اختبار نفسي معه عدة مرات في مشاركته بعض الألعاب، أو شرح بعض أساليب التعامل مع مواقع أو أنشطة تكنولوجية، وشعرت بالإحباط. وجدت نفسي أمام تفكير مختلف ومتطور، من الصعب أن نظل نحن كبارًا وهم صغار، لدرجة أنني أسقطّن وجهة نظري السابقة التقليدية، التي اعتدنا عليها عندما كنّا نحن الكبار ننظر بشكل قاصر إلى الأجيال الجديدة بنظرة متعالية، مقتنعين بأننا نحن الكبار أصحاب الحقيقة المطلقة (من يكبرك بيوم يعرف عنك بسنة)! لقد تولّدت لديّ قناعة من متابعتي لأحفادي أننا أمام جيل لم نتربَّ على تربيته، ولم تُتَح لنا فرصة لأن نعد أنفسنا على مسايرته. جيل يمتلك من القدرات العقلية ما يؤكد تفوقه على جيل الوالدين والأجداد، خاصة ما توفّر لديهم من امتلاك الإمكانات المتطورة السريعة بل والجذابة، مما كوَّن لديهم ما قد نطلق عليه "الذاكرة الإلكترونية الخارقة". وفي الوقت نفسه، كنت فخورًا بأنني أشاهد جيلًا من الأحفاد ينطبق عليه قول سليمان الحكيم: «تاج الشيوخ بنو البنين» (أم١٧: ٦)...
وسمحت لنفسي أن أتساءل داخلي، كيف سنتعامل مع أبنائنا وأحفادنا امام هذه التغيُّرات؟ حقًا نحن نعلم جميعًا أن التربية لها زمان ولها مكان، ولكن المتغيّرات العالمية تحتاج إلى تغيير أنماط التعامل، وهي قضايا عصرية وتحديات أمام الأوساط التربوية؛ ولَكن دعونا نتفق على أساسيات هامة:
- أن يكون لدينا الاستعداد الكامل لاحترام تفكير هذا الجيل وآرائه، ولا نتعامل معه بالاستهانة أو اللا مبالاة.
- أن نتبادل معًا المعرفة، ونتحاور معهم بندّية، وننسى العهد الذي كان الكبار هم فقط أصحاب المعرفة.
- أن نسعى للتعايش معهم في زمنهم حتى نمحو الفواصل والتباعد بيننا، ولندعهم يعيشون بلغة عصرهم، مستجيبين لنا في بعض مخاوفنا لأننا اقتربنا منهم، وتولَّد بيننا احترام متبادل وثقة، وحوار يؤدي إلى الوصول لقرارات مقنعة من الطرفين.
ولكن مازال التساؤل الصعب: كيف تواجه الأوساط التربوية (الأسرة والمدرسة والكنيسة والإعلام وغيرها...)، هذا التحدّي التربوي بموضوعية وبشكل عملي؟ إنها دعوة للحوار والمناقشة..