اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
السة 4923 أبريل 2021 - 15 برموده 1737 ش     العدد كـــ PDFالعدد 15-16

اخر عدد

قراءة في «سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسَة».. طَوْر التَّكوين (5)

شريف رمزي - باحث في التاريخ الكنسيّ

23 أبريل 2021 - 15 برموده 1737 ش

نُتابِعُ دراستنا المُتعمِّقةٍ في أقدمِ مخطوطات «سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسَة»، وحديثنا المُتواصِل عن الكُتَّابِ الَّذين أسهَموا في تكوينهِ..

6) أبو البركات موهوب بن منصور بن مُفرِّج الإسكندرانيَّ:

كان أرخُنًا فاضِلاً من أراخِنةِ (أعيان) مدينة الإسكندريَّة، رُسِم شمَّاسًا بيد البابا شنوده الثَّاني/65 (1032 - 1046م)، وكان يحظى بمكانةٍ مرموقة في الأوساطِ الكنسيَّة وصِلة مُباشِرة بالآباءِ البطارِكة الَّذين عاصرهُم. فضلاً عن الحظوةِ الَّتي تمتَّع بها لدى ولاة الأمر؛ لعملهِ -مع أفراد عائلته- بالتِّجارةِ وتوفيره المهمَّات الَّتي كان أولئك الولاة بحاجةٍ إليها، وكانت وكالة موهوب بالإسكندريَّة مقصدًا لتُجَّارِ الشَّام والأندَلُس.

كما تظهَر مكانة موهوب وعائلته أيضًا في الكُنى الَّتي استُبِقَت بها أسماءهم، فوالده هو ”الشَّيخ أبو الفتح منصور بن مُفرِّج“، وأخوه ”أبو العَلاء فهد بن منصور“. أمَّا موهوب نفسه فلم يَستبِق اسمه في «سِيَر البِيْعَة» بأيِّ كُنى أو ألقاب، بل في اتِّضاعٍ جَمّ يصفُ نفسه دائمًا بـ: الخاطئ، الحقير، البائس، المُذنِب، غير المُستَحِقّ! أمَّا كُنيته الَّتي اشتهَر بها فنعرِف عنها من إشارةٍ فريدة للمؤرِّخِ أبو المكارم (في الجزءِ الثَّاني من كتابهِ: «أخبار من نواحي مصر وإقطاعها»، المنسوب خطأ لأبي صالح الأرمنيّ)، وهُنالك يُدعى: ”الشَّيخ أبو البركات موهوب بن منصور بن مُفرِّج الإسكندرانيَّ “.

وبرغمِ تلك المكانة المرموقة فقد تجرَّع أفراد هذه العائلة المُباركة مرارة الاضطهادِ، فعوقِب الشَّيخ أبو الفتح بالحبسِ لاستنزافِ أمواله، وقُتِل أبو العَلاء بعد تكرار حبسه وتغريمه مبالغ باهِظة، وموهوب نفسه عوقِب بالحبسِ واضطر لبيعِ أكثر مُمتلكاته لدَفعِ الرّسومِ الَّتي فُرضِت عليه بدونِ وجه حقّ، وأكثر من ذلك تهديده في زوجتهِ وابنه الوحيد: [فأخرجَني أبو الحارِث يَومًا مِن الاعتِقالِ وأوقَفَني بين يَدَيه، وقال لي: قد ضجَرتُ مِمَّا يقول لي الشَّيخ أبو الطَّيب بن الظَّالِم: عاقِب مَوهوب ووَلَده وزَوجَته وأبو الحسَن ولد أبو السُّرور بن الأبح إلى أن يَقوموا للسُّلطانِ بِمالهِ الَّذي كتَبوا خُطوطهم به. وحَلَف عليَّ بأيمانٍ عَظيمة أنَّ المذكور حَثَّه على هذا دَفعاتٍ كَثيرة. ثُمَّ حَلَف -أعني أبو الحارِث- قائِلاً لي: إنْ لم تُحضِر لي عشيَّة اليَوم كَذا وكَذا -ذَكَر دَنانير كَثيرة لا قُدرَة لي عَليها- لأُعاقِبَنّ وَلَدك قُدَّامك في هذه العشيَّة. فقُلت له: يا مَولاي هو مَطروح وقَد قاربَ أنْ يَموت لشِدَّةِ ما ناله مِن العُقوبةِ، وإنْ أنت استَدعَيته مات].

 لقد كرَّس موهوب حياته كُلّها لخِدمةِ البيعة، وفضلاً عن وقتهِ وجَهده لم يكُن أيضًا يبخَل على البيعةِ بمالهِ، برغمِ أعبائهِ الماليَّة وابتزازه المُستَمِرّ من جانب السُلطات، ومن ذلك قيامه بسَدادِ الإتاوة المفروضة على الكنائسِ نيابة عن البابا خرستوذولُس/ 66: [وكُنت أنا الخاطئ مَوهوب قد قُمتُ بالدَّنانيرِ المُستَقرَّة على البيَعِ بحُكمِ ما ناله وحمَلتُ عَنه هَمّها].

وقد تشرَّف موهوب بحيازتهِ لرأسِ القدِّيس مار مرقس في بيتهِ مُدَّة من الزَّمن: [وكان يظهَر لنا مِن رأسِ القِدِّيس ماري مَرقُس -لمَّا أخذته إلى عندي- عَجائِب كثيرة... فلمَّا نِمت تيك اللَّيلة ظهر لي القِدِّيس].

دَور موهوب في جمعِ وترجمة «سِيَر البِيْعَة»:

 قادت العِنايةٍ الإلهيَّة موهوب إلى التَّفكيرِ في جمعِ سِيَرِ البطاركة الَّتي كانت مُتفرِّقة على أيامهِ في مكتباتِ الأديرة القديمة، وترجمتِها من اللُّغةِ القبطيَّة إلى اللُّغةِ العربيَّة بمُساعدةِ رفيقه الشَّمَّاس «ميخائيل بن بٰدير»، وبذلك حفِظها لنا من الضَّياعِ الَّذي آلت إليه أصول السِّيَر المكتوبة باللُّغةِ القبطيَّة: [وتحدَّثت مع الشَّمَّاس أبو حبيب الدَّمنهوري المُقَدَّم ذِكره فيما اشتَهَيته مِن جَمعِ سِيَر البَطارِكة، فاتَّفَق رأينا على البحثِ عليها وطَلَبها حيثما كانَت. فوَجَدنا في دَيرِ السَّيِّدة نهيا سِيرَة اثنَين وأربَعين بَطرَك مِن ماري مَرقُس الإنجيليّ إلى سيمون. ووَجَدنا في دَيرِ الشَّهيد تادرُس على المَنهى بأبلاح سِيرَة أربَع بَطارِكة مِن ألاكسندروس إلى خائيل، وهو تَمام سِتَّة وأربَعين بَطرَك. وفي دَيرِ نهيا أيضًا سِيَر تِسعة بَطارِكة مِن أنبا مينا إلى سانوتيوس، وهُم تَمام خَمسَة وخَمسين بَطرَكًا. ووَجَدنا في دَيرِ أبو مقار سيرة عَشَرة بَطارِكة مِن خائيل السَّادِس وخَمسين إلى سانوتيوس الخامِس وسِتِّين، كَتَبها أنبا ميخائيل أُسقُف تِنِّيس].

لكن بالرَّغمِ من ذلك فقد هُمِّش دور موهوب لقرونٍ عِدَّة ونُسِب العمل بأكملهِ إلى الأنبا ساويرُس بن المُقَفَّع الأُسقُف ذائع الصِّيت، إلى أن ظهرَت الدِّراسات الحديثة الَّتي سَعَت لإبرازِ هذا الدَّور -واحدة تلو الأخرى- في مُحاولاتٍ مُتَكرِّرة لرَسمِ ملامحه بدِقَّةٍ. أمَّا البناء الَّذي تُمثِّله كلّ تلك الدِّراسات فقد وضع أساسه الشَّمَّاس «كامل صالح نخلة» عُضو لجنة التَّاريخ القبطيّ، في كتابهِ «تاريخ وجداول بطاركة الإسكندريَّة القبط / 1943م»، والَّذي يُعَدّ أوَّل مُحاولات دراسة «سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسَة» وتحديد الأدوار المُختلفة لمُحرِّريه.

وقد أبرزَت الدِّراسات المُختلفة دور موهوب في جمعِ السِّيَر (1-65) وترجمتها، فضلاً عن تدوينهِ لسيرة البابا خرستوذولُس/66 (1047-1077م)، والبابا كيرلس الثَّاني/67 (1078-1092م)، وهي أولى السِّيَر الَّتي كُتِبَت مُباشرة باللُّغةِ العربيَّة.

وفي نصٍّ فريد يكشف لنا موهوب عن دورٍ له أيضًا في التَّأريخِ للبابا ميخائيل الرَّابع/68 (1092-1102م)، الَّذي عاصر تكريسه بطريركًا، لكن يبدو أنَّ القدر لم يُمهله فتنيَّح قبل استكماله تلك المهمَّة، أو رُبَّما أعاقه عن ذلك الوَهن والشَّيخوخة، وكان عُمره آنذاك قد ناهَز الثَّمانين عامًا، فضلاً عن إقامتهِ بالإسكندريَّة بعيدًا عن مركزِ الأحداث. ثمَّة احتمال أيضًا أنَّ ما سطَّره موهوب من أخبارٍ تخُصّ تكريس البابا ميخائيل قد أُدمِج في السِّيرة الَّتي حرَّرها مُعاصِره يوحنَّا بن صاعد (المعروف بابن القلزميّ)، وكان الأخير قريبًا من الأحداثِ وفاعلاً فيها، إذ أنَّ الكُرسيّ البطريركيّ كان قد استقرّ نهائيًّا بمصر والقاهرة: [وكُنت أنا المُذنِب البائِس قد تجاسَرت وشَرَحت سيرَة أنبا إخرسطوذولُس وأنبا كيرلُّس، على ما عايَنت وسَمِعت مِن الثِّقاتِ. فصار فيه، أعني هذا الجُزء، سيرة الاثنَي عَشَر بَطريَركًا إلى كيرلُّس، بحُكمِ مُعاصَرَتي للاثنَينِ المَذكورَين، بعد الأبّ أنبا شنوده الَّذي أوسَمَني شَمَّاسًا بالاسمِ أنا الغَير مُستَحِقّ. ثُمَّ صَنَّفت سيرَة الأبّ البَطريَرك ميخائيل السِّنجاريّ الَّذي أوسِم على ما تَضَمَّنَته سيرَته].

ويُحدِّد موهوب التَّاريخ الَّذي بدأ فيه عمله بجمعِ السِّيَر في حَبريَّة البابا كيرلس الثَّاني/67: [وذلك في بَرمهات سَنة ثَمانِ مائة وأربَعة للشُّهَداءِ، الموافِقة لسَنةِ أربع مائة وسِتَّة وسَبعين الخَراجيَّة وهو المُحرَّم سَنة ثمانِـ(ـين) وأربَع مائة الهِلاليَّة، وهي السَّنة العاشِرة مِن بَطرَكيَّتِهِ]. وهذا التَّاريخ يوافق مارس سنة 1088م.

ويقودنا البحث الدَّقيق في مخطوطاتِ «سِيَر البِيْعَة» إلى نتيجةٍ مفادُها أنَّ عمل الشَّمَّاس موهوب بن منصور بن مُفرِّج الإسكندرانيَّ قد مرّ بعدَّةِ مراحلٍ، أوَّلها عمليَّة الجمع والتَّرجمة لسِيَرِ البطاركة السَّابقين، وأخرها تأريخه للبطاركةِ الثَّلاث الَّذين عاصرهم، وبينهما جَهدٌ دؤوب لم يتوَقَّف في العملِ على تجويدِ نَصِّ نُسخَته الأوليَّة وضبطِ إيقاعه، وذلك قبل أن تطرأ على العمل برُمَّتِه تغييرات يصعُب حصرها نتيجة لتَدخُّلات النُّسَّاخ والكُتَّاب اللاحقين.

يُتَّبَع




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx