اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
الكرازة السنة الخامسة والأربعون19 مايو 2017 - 11 بشنس 1733 ش     العدد كـــ PDFالعدد 19-20

اخر عدد

فيهزمهم صوت ورقة مندفعة

نيافة الانبا يوسف أسقف جنوب الولايات المتحدة الأمريكية

19 مايو 2017 - 11 بشنس 1733 ش

لما أعطى الرب الشريعة لموسى النبي، سرد له قائمة البركات التي تحل على الذين يطيعون الوصية، وقائمة اللعنات التي تأتي على الذين يخالفونها. ومن بين تلك اللعنات أن يموت مخالفو الشريعة بسيف أعدائهم. إلّا أنهم لا يموتون جميعهم، بل ينجو البعض منهم من سيف العدو ليقعوا فريسة لسيف من نوع آخر وصفه الرب بقوله: «والباقون منكم ألقي الجَبَانة في قلوبهم في أراضي أعدائهم، فيهزمهم صوت ورقة مندفعة، فيهربون كالهرب من السيف ويسقطون وليس طارد» (لا36:26). يعني ذلك أن صوت اندفاع ورقة يثير فيهم الرعب الذي يثيره السيف، فيهربون من ذلك الصوت هروبهم من الموت.

أيضًا سليمان الحكيم وصف ببلاغة شديدة في سفر الحكمة حال المصريين عندما أتت عليهم ضربة الظلام فقال: «هؤلاء أدنفهم (أي اشتد عليهم) خوف مضحك، فإنهم وإن لم يصبهم شيء هائل، كان مرور الوحوش وفحيح الأفاعي يدحرهم فيهلكون من الخوف، ويتوَّقون (أي يتجنبون) حتى الهواء الذي لا محيد عنه. لأن الخبث ملازم للجبن فهو يقضي على نفسه بشهادته ولقلق الضمير لا يزال متخيلًا الضربات. فإن الخوف إنما هو ترك المدد الذي من العقل. وانتظار المدد من الداخل أضعف ولذلك تحسب مجلبة العذاب المجهول أشد» (حك17: 8-12).

يبرز النص الكتابي الأول الارتباط الوثيق بين الخوف ومخالفة الوصية، أمّا النص الثاني فيوضّح الرابطة بين الخوف وضربة الظلام التي ترمز لغياب الاستنارة. وكلا النصين يوضحان ببراعة الحال البائس الذي وصل إليه الإنسان بالسقوط. فهو بعد أن كان قد خُلِق على صورة الله ومثاله وحصل على امتياز التسلط على كل الخليقة، إذ أكل من شجرة معرفة الخير والشر انفتحت مداركه على العديد من الشرور التي كان الخوف أحدها. لذلك وضع الوحي الإلهي في سفر الرؤيا الخائفين على رأس قائمة المحرومين من دخول الملكوت: «وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة، فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني» (رؤ8:21). لقد كان الخوف إذًا جزءًا لا يتجزّأ من الفساد الذي دخل إلى طبيعة الإنسان بعد السقوط، والذي جعل للموت الثاني سلطانًا عليه.

ويؤكد علماء النفس في العصر الحديث في العلاج المعرفي السلوكي، على ما أعلنه سليمان الحكيم منذ زمن بعيد بأن «الخوف إنما هو ترك المدد الذي من العقل». فالخوف هو ليس إلّا فكرة خاطئة غير موضوعية تتسلط على الإنسان فتفسد عليه حياته. «الشرير يهرب ولا طارد، أمّا الصديقون فكشبل ثبيت» (أم1:28). عبارة "لا طارد" هنا تشير بوضوح إلى أن المصدر الحقيقي للخوف يكون في داخل الإنسان وليس خارجه، وبالتحديد في أفكاره. بالتالي، لكي يتحرر الإنسان من مخاوفه ينبغي عليه أن يركز كل معركته وجهاده في ساحة الفكر مقاومًا الفكر بالفكر. إنه إذ يقتني فكر المسيح يعيش في القيامة التي لا محل للخوف فيها.


وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ (أع1: 9)

صعود السيد المسيح، الكلمة المتجسد، بجسده، الذي اتحد به في بطن العذراء مريم، وقَبلِ فيه جميع الانفعالات والآلام والموت والدفن، ليؤكد حقيقة الاتحاد الكامل بين اللاهوت والناسوت، وأنهما صارا طبيعة واحدة، وأقنومًا واحدًا، وأن هذا الاتحاد لا افتراق معه. وكما أكد لنا بقيامته من الأموات حقيقة القيامة العامة، كذلك أرانا بالفعل حالة قيامة الأجساد بطبيعة روحانية في اليوم الأخير، وهكذا صعد به إلى الأعالى، كما يقول القديس كيرلس: [إنه ارتفع إلى السماء، حتى يشترك في عرش الآب بالجسد، الذي هو متحد به، هذا هو الطريق الجديد قد صنعه الكلمة لنا بعد أن ظهر في الطبيعة البشريّة] (تفسير إنجيل لوقا: 154).

صعد إلى أعلى السموات: إن صعود السيد المسيح إلى أعالي السموات [سماء السموات] وهي أعلى وأسمى، قال عنها مُعلمنا داود النبيّ: «الرَّبُّ فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ...» (مز11: 4)، وأيضًا «سَبِّحِيهِ يَا سَمَاءَ السَّمَاوَاتِ» (مز148: 4)، وهى عرش الله، وعنها قال السيد المسيح في العظة على الجبل «لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللهِ...» (مت5: 34، 35)، وهي التي صعد إليها وحده، وقال عنها معلمنا القديس بولس الرسول: «فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ» (عب4: 14)، اجتاز διελυθότα السموات، لا يعني أنه مر بها أو اخترقها، بل تجاوزها إلى ما هو أعلى منها، فقد «صَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ» (عب7: 26). أي تجاوز الأمور المنظورة. لذلك «أَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ» (أع1: 9). والسحابة لها مدلولات كثيرة، نذكر منها الآتي:

† كان الله يُستعلن بمجده في السحاب: فكان علامة ميثاقه مع نوح: «وَضَعْتُ قَوْسِي فِي السَّحَابِ» (تك9: 13). ويقول الله لموسى: «هَا أَنَا آتٍ إِلَيْكَ فِي ظَلاَمِ السَّحَابِ..» (خر19: 9). وقد صاحب حلول مجد الرب، سحاب ملأ المكان: «َإِذَا مَجْدُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي السَّحَابِ» (خر16: 10). وكذلك كانت السحابة في التجلي متصلة بوضوح مع حضور الله والصوت الإلهيّ (مت17: 5؛ مر9: 7؛ لو9: 34، 35).

† كان عمود السحاب علامة على وجود الله وسط شعبه، وقيادته لهم في رحلاتهم إلى أرض الموعد، ويعتبره القديس مقاريوس في مقابل إرشاد الروح القدس للنفس البشرية، عندما يتأمل في حالة النفس البعيدة عن عمل الروح، فيقول: [وكيف أتقبل أقوال الشريعة الإلهية على ألواح قلبي؟ وكيف أرى عمود النور الحقيقي والسحاب الناشئ من الروح القدس؟] (عظة25: 6).

وسوف يأتي ابن الإنسان على السحاب، فيقول: «حِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ» (مت24: 30؛ 26: 64؛ مر13: 26؛ لو21: 27). وسيأتي ثانية مع السحاب (رؤ1: 7). فالمسيح لن يأتي في الخفاء أو في غموض، بل كإله ورب بمجد يليق بألوهيته (القديس كيرلس، تفسير إنجيل لوقا139)

هكذا تشير سحابة دخان البخور في الكنيسة، إلى أن الله محتجب وغير مرئيّ: «فَوَقَفَ الشَّعْبُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَمَّا مُوسَى فَاقْتَرَبَ إِلَى الضَّبَابِ حَيْثُ كَانَ اللهُ» (خر20: 21)، وإلى حلول مجد الله. ونتذكر أيضًا، ونحن شاخصين نحو المشرق، وسحابة البخور من حولنا، صعوده إلى السموات وجلوسه عن يمين أبيه، وانتظار مجيئه الثاني المخوف المملوء مجدًا.


  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx