جاء في إنجيل معلّمنا مرقس البشير الموقف التالي: «وَكَانَ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ يَصُومُونَ، فَجَاءُوا وَقَالُوا لَهُ:«لِمَاذَا يَصُومُ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا وَالْفَرِّيسِيِّينَ، وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا. وَلكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ».» (مر2: 18-20).

ومن هنا فإنّ الكنيسة الأولى، بعد صعود السيّد المسيح العريس إلى السماء، وحلول الروح القدس، مزجت كرازتها بالصوم مع الصلوات، وهي واثقة أنّ الصوم هو سلاح قوي يسند الخدمة، وينجّي من فخاخ الشياطين، ويحفظ للكنيسة روحها النسكيّة وإحساسها بالغًربة عن هذا العالم.. ولذلك فإنّ الأشخاص الروحيّين في الكنيسة ينتظرون بشغف فترة صوم الرسل بعد فترة الخمسين المقدّسة الطويلة التي لا يوجَد فيها صيام، ليعودوا إلى الميطانيات والصوم الانقطاعي ويتزوّدوا بالقوّة الروحيّة..

صوم الرسل موجود في أغلب الكنائس التقليديّة، ولكنّ مدّته تختلف من كنيسة لكنيسة.. وهو ينتهي دائمًا بالاحتفال بعيد استشهاد القدّيسيْن بطرس وبولس، الذي يأتي في تقويمنا القبطي يوم 5 أبيب. وجدير بالذِّكر أن يوم 5 أبيب قبل عام 1582م كان يأتي موافِقًا ليوم 29 يونيو، ولكن بعد ضبط التقويم اليولياني، فيما يُعرَف بالتعديل الغريغوري، صار الآن 5 أبيب موافِقًا ليوم 12 يوليو، أي أنّ صوم الرسل زاد بمقدار 13 يومًا، وسيزداد يومًا آخَر بعد عام 2100م وسيظلّ يزيد.. أمّا إذا نجحت الجهود المبذولة الآن لضبط التقويم القبطي، فإنّ الصوم سيعود إلى حجمه الأوّل الثابت كما كان قبل عام 1582م، ويأتي يوم عيد الرسل 5 أبيب موافِقًا ليوم 29 يونيو من كلّ عام.

توجَد ألحان خاصّة جميلة تشدو بها الكنيسة في صوم الرسل، مثل لحن "آسومين" ولحن "أونتوس" ولحن "ني رومي" بالإضافة إلى لحن "إنثوتين ذيه ~Nqwten de" الذي هو أحد أجمل ألحان الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة على الإطلاق، https://www.youtube.com/watch?v=xDPahzYVOl0 كلماته هي عبارة عن ثلاث آيات من فم السيّد المسيح له المجد قالها لتلاميذه الأطهار بعد العشاء الأخير، وسجّلها القديس لوقا في إنجيله، وفيها تقدير كبير من الربّ يسوع لتلاميذه الذين تعبوا وتألّموا معه في الخدمة، فيَعِدهم بمجد عظيم في الملكوت قائلاً: «أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتًا، لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي، وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ» (لو22: 28-30)، ومع هذه الكلمات الذهبيّة فإنّ نغمات هذا اللحن شجيّة جدًّا وتستغرق حوالي 15 دقيقة، تنتقل من النغمات الهادئة الحزينة في بداية اللحن إلى نغمات متهلّلة جِدًّا في نهايته، تُحلّق بنا في السماء مرّات ومرّات، حتّى أنّني عندما أسمعه لا أودّ أن ينتهي أبدًا..!

عمومًا، صوم الرُّسل هو فترة مُفرِحة في الدورة الكنسيّة القبطيّة، تنشط فيها الخدمة وتَستلهِم الكنيسة فيها روح الآباء الرُّسل في عملها الرعوي والكرازي، متمثّلة بهم، متوسِّلة لله بالأصوام والصلوات أن يذكُر خلاص العالم كلّه، ويبارك شعبه ويحفظهم من كلّ شرّ، نامين في محبّته، ممتلئين من معرفة مشيئته، ومثمرين في كلّ عمل صالح لمجد اسمه القدّوس. آمين.