اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
الكرازة السنة الخامسة والأربعون22 سبتمبر 2017 - 3 توت 1734 ش     العدد كـــ PDFالعددان 37-38

اخر عدد

أمُـور كثيـرة - مجلة الكرازة - الجمعة 11 يوليو 2003 – العددان 21، 22

مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث

22 سبتمبر 2017 - 3 توت 1734 ش

أود أن أحدثكم في هذا المقال عن كلمة أستوحيها من قول الرب لمرثا أخت مريم «أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى واحد. فاختارت مريم النصيب الصالح» (لو10: 41).

العجيب أن مرثا تضطرب وترتبك حتى في زيارة السيد المسيح لها. لم تأخذ من زيارة المسيح بركة، إنما دخلت في ارتباك واضطراب واهتمامات، هذه أول نقطة.

والنقطة الثانية أن مرثا لامت أختها لأنها تركتها تخدم وحدها. وفي رأيها كان لابد لمريم أن تترك السيد المسيح وتعمل معها! أي أنها كانت مرتبكة، وأرادت أن مريم ترتبك معها، وكلاهما يعملان في المطبخ ويتركان المسيح وحده! أي أنها اهتمت بالمطبخ أكثر من المسيح!

والنقطة الثالثة إنها في ارتباكها لم توجه اللوم فقط إلى أختها، وإنما وجهت اللوم إلى السيد نفسه قائلة له «أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟! فقل لها أن تعينني» (لو10: 40). وهي لم توجه فقط اللوم أو العتاب، بل وجهته إلى ما كان ينبغي عليه أن يفعله!! فقالت: "قل لها أن تعينني"..

طبعًا السيد لم يسمع لها، إنما لامها على ارتباكها، وعلى أنها تركت النصيب الصالح الذي اختارته أختها التي كانت أفضل منها.

نستفيد من هذا المثل أننا لا نهتم ولانضطرب لأجل أمور كثيرة.

فما هي تلك الأمور الكثيرة؟

أولًا: أمور العالم الحاضر.

ثانيًا: الصراعات.

رابعًا: الخطايا.

خامسًا: الانفعالات التي تقود إلى الاضطرابات.

فمثلًا جائز شخص يكون مهتمًا بمباراة في الكرة. فيغضب ويضطرب لو أن الفريق الذي يحبه قد خسر المباراة. ويصل به الأمر إلى انتقاد الحكم قائلًا إنه أخطأ، أو أنه كان متحيزًا، أو لم يلتفت تمامًا.. ويدخل في مشاكل وخطايا وانفعالات، لا علاقة لها كلها بخلاص نفسه.

هناك آخرون يهتمون بأمور من العالم، كالمال مثلًا.

مثل الغني الذي قال: «أهدم مخازني وأبني أعظم منها. وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي، وأقول لنفسي لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة. فاستريحي وكلي وأشربي وأفرحي» (لو12: 18، 19). إنه كان مهتمًا بأمور كثيرة، وما كان يعمل لأبديته التي كانت على الأبواب، في تلك الليلة!

وأحيانًا تكون الأمور الكثيرة انشغالات قد نظنها خيرًا وبركة.

أتذكر قصة حدثت سنة 1955 وكنت وقتها راهبًا في دير السريان، وكان الدير منشغلًا ببناء أول صهريج للماء في الأديرة، وكان يشرف على بنائه الراهب موسى السرياني (فيما بعد نيافة الأنبا أندراوس أسقف دمياط المتنيح). وكان في الدير عمال كثيرون..

ثم زار الدير أبونا عبد المسيح الحبشي المتوحد، جاء يزو الدير، ودخل كنائسه، وكان يسجد أمام كل أيقونة ويصلي. وبعد أن انتهى من زيارة الكنائس، جلس مع أسقف الدير نيافة الأنبا ثاؤفيلس الذي أراه مزرعة الدير وكل أنشطته.

ولكن هذا المتوحد بدلًا من أن يقول كلمة تشجيع للأسقف، التفت إليه وقال له: "عارف قال لها إيه؟... قال لها مرثا مرثا شغل كتير"!! يقصد شغل كثير يعطلهم عن العبادة.

نحن لا ننكر فائدة مشروعات الأديرة ولكن تلك العبارات كانت نظرة راهب متوحد إليها..

أيضًا الخطايا من الأمور الكثيرة التي تعطل.

إنسان مُحارَب بخطية تشغل وقته، يظل يفكر فيها، ويؤلّف حولها قصصًا خيالية في ذهنه. وفكره تقود إلى فكرة، وشهوة تقود إلى شهوة، وحكاية تتلوها حكاية، مع انفعالات لا تُحصى!

أحيانًا المشاكل يُدخِلها الشيطان في محيط الخدمة لكي يعطلنا.

وذلك لكي ننشغل بها، ويتعطل عملنا الإيجابي البنّاء. إنه يريد أن يعطل سلام القلب من الداخل بأمور كثيرة: تعطل الصلة بالله، وتعطل بناء الملكوت. يغرس أسبابًا للاضطراب والصراع وحمل الهم، بتلك الأمور الكثيرة. حتى الآباء الرسل في عملهم الكرازي، كان الشيطان يبعث لهم مشاكل لكي تعطل عملهم الإيجابي، وليوقعهم في الاضطراب. ولكنهم لم يسمحوا له بذلك، واستمروا في عملهم الكرازي دون أن تشغلهم المشاكل أو تعطلهم.

وفي تاريخ الكنيسة نجد أمورًا قد حدثت لتعطيل الكنيسة عن عملها البنائي: منها البدع والهرطقات.

هذه التي شغلت الكثير بصراعات عديدة مع قوى الشر. ولكن الكنيسة بدلًا من ذلك، اتخذتها وسيلة لشرح الإيمان وتقويته وتثبيته. وعلى رأي القديس أوغسطينوس الذي قال: "نشكر الهراطقة الذين ألقوا شكوكًا حول الكتاب المقدس. فجعلونا نتعمّق في الكتاب بالأكثر لكي نرد عليهم". ووصل الأمر إلى ما هو أفضل.

مثال آخر: لما أصحاب الهرطقات كادوا للقديس أثناسيوس ونُفى إلي بلاد الغرب، لم يجعل هذا الأمر يعطل خدمته. بل كان وهو في النفي ينشر الإيمان السليم ويؤسس كنائس. فازداد الإيمان انتشارًا بدلًا من التعطيل.

الأمور الكثيرة من أمور العالم تشغل الوقت والفكر والمشاعر.

فأنت حينما تهتم بأمور كثيرة، وتدخل في انهماكات عديدة، إنما تشغل وقتك وفكرك وعواطفك وانفعالاتك. ومن الجائز أنها تجلب لك الاهتمام والاضطراب...

خذوا مثلًا الحروب التي تقوم أحيانًا: كم تشغل الجرائد والراديو والتلفزيون وكل وسائل الإعلام. والناس ينشغلون بتحليل المواقف، وما يحدث، وما سوف يحدث، والمخاوف، والتعليقات.. كلها أمور كثيرة.

لا أحد يهتم بأبديته، مثلما يهتم بهذه الأمور الكثيرة.

حتى في الكنيسة!! اللجان والانقسامات وأمثالها من أمور كثيرة.

انقسام بين اللجنة والكاهن. وبين مدارس الأحد واللجنة. وأحيانًا بين مدارس الأحد والكهنة..! حتى المشروعات التي يقدمها البعض: تقوم حولها مجادلات عديدة: ماذا نعمل؟ وماذا ينبغي؟ وأين الخير؟ وأين الخطأ؟ ووسط كل ذلك يفقدون العمل الإيجابي والعمل الروحي، منشغلين بأمور كثيرة. وكما قال أحد الأدباء الروحيين:

أنتم تنشغلون ببيت الرب. فمتى تنشغلون برب البيت.

نعم ما أكثر ما ننشغل ببيت الرب، وننسي الرب نفسه!

الشيطان يريد أن يشغلنا بأي شيء، وفي أي موضع، وبأي سبب، وفي أي وقت. لكي نبتعد عن الواحد الذي هو النصيب الصالح الذي اختارته مريم.

في مدارس الأحد مثلًا قد ينشغل الخدام أو الأمين بما يسمونه مشاكل الخدمة، أو مشاغل الخدمة، ويتركون روحياتهم في وسط انشغالاتهم! ينشغلون بالأماكن، والمواعيد، والنادي، والمالية الخاصة بالخدمة، والصراعات الموجودة. وروحياتهم أين هي؟ لا وقت لهذه الروحيات، للأسف!

لا تظنوا أن العمل الوحيد للشيطان، هو أن يدفع الإنسان إلى الخطية؟ كلا، فمع البعض يدفعهم إلى المشغولية.

لأنه حينما يدفع إلى الخطية بصراحة، يتنبه الخادم لذلك ويقاومه. لذلك فالشيطان لا يكون صريحًا في حربه. إنما يشغل الخادم. وبذلك لا يترك له وقتًا للعمل الروحي لأجل نفسه. وبالتالي يفتر. وفي فتوره يضربه الشيطان بالخطية المناسبة. وعندئذ يجده الشيطان فريسة سهلة، ليس حوله إنجيل ولا أجبية، ولا مزمور ولا ترتيلة، ولا لحن، ولا تدريب روحي. فيضيع، وربما بلا مقاومة تُذكر، كالمرض الذي يصيب إنسانًا وليست له مناعة.

مثال: يقول البعض نخرج في خلوة. وترتب الخدمة رحلة للدير! وكلمة رحلة لا تتفق مع كلمة خلوة، لأنها تضم عددًا كبيرًا! والرحلة تحتاج إلى إعداد وترتيب، وانشغال بسبب ذلك وما يلزمها من تنظيمات وأمور كثيرة.

حتى الصلاة: كثيرًا ما يشغل الشيطان الإنسان أثناء صلاته: يذكره بأمور كثيرة تحتاج لصلاة. ثم يسرح في هذه الأمور الكثيرة ويترك الصلاة! ويذكره بعلاقات وأمور مهمة ينبغي البت فيها بسرعة. وكأنه لا يجد سوى وقت الصلاة ليذكّره بتلك الأمور ويشغله بها..!

ما أجمل عبارة الأنبا أور التي قالها لتلميذه: "أنظر يا ابني، لا تُدخل هذه القلاية كلمة غريبة".

أي كلمة غريبة عن عملنا الروحي. باعتبار أن الرهبنة هي الانحلال من الكل للارتباط بالواحد، أي الانحلال من الأمور الكثيرة للانشغال بالواحد الذي هو الله. وهذا هو النصيب الصالح.

لذلك إذ قال الشيطان للرهبان لا تصلوا، سيطردونه قائلين: اذهب يا شيطان. ولكنه بذكائه لا يقول ذلك، وإنما يشغلهم.

في العظات، قد يشغل الشيطان بعض السامعين بالتعليق على العظة، دون التعمق في معانيها وتطبيقها عمليًا.

كلام الناس، أحاديثهم، مناقشاتهم قد تكون من الأمور الكثيرة المعطلة.

انظروا كم من الوقت يضيع كل يوم في الكلام، في الدردشة، في التعليقات، في التليفونات، وبخاصة من يمتلكون Mobile Phone. وأعجب من هذا من يدخل ومعه هذا الجهاز إلى الكنيسة!

ما هو الحل إذن؟

يقول الكتاب «بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم» (إش30: 15). احترس إذن واهدأ. لا تخف ولا يضعف قلبك. وإن وجدت أمورًا كثيرة تحاربك، لا تهتم ولا تضطرب بسببها. وأعرف أن الاضطراب ليس حلًا للمشاكل، إنما هو مشكلة أخرى تحتاج إلى حل. إذن «ألقِ علي الرب همّك، وهو يعولك» (مز55: 22) «ملقين كل همكم عليه. لأنه هو يعتني بكم» (1بط5: 7).

اهتم بالعلاج الروحي، وبالنمو الروحي، وبإدخال الله في كل حياتك: الروحية والمادية معًا.



  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx