اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
الكرازة السنة الخامسة والأربعون06 أكتوبر 2017 - 26 توت 1734 ش     العدد كـــ PDFالعدد 39-40

اخر عدد

لا تطفئوا الروح

قداسة البابا تواضروس الثانى

06 أكتوبر 2017 - 26 توت 1734 ش

الكتاب المقدس مليء بالرموز الكثيرة، خاصة عن الروح القدس، فيرمز له مرة بالحمامة، ومرة بالزيت، أو المياه أو الرياح أو النار... وحين يقول لنا الرسول: «لا تطفئوا الروح» فهو يرمز بالنار للروح القدس الذي يعمل في الكنيسة من خلال المواهب المتعددة، ويعمل في حياة المؤمنين من خلال الثمر ثمار الروح القدس.

الروح الذي نلناه والذي وُلِدنا فيه في المعمودية الولادة الجديدة من الماء والروح، هو روح متوهج روح أو نار متوهجة تعمل فينا. يقول لنا القديس يوحنا المعمدان: «يأتي بَعدي هو أقوَى مِنّي... هو سيُعَمِّدُكُمْ بالرّوحِ القُدُسِ ونارٍ» (مت3: 11). ونوالنا الروح القدس يحول قلب الإنسان إلى نار حارّة، مثلما يُقال عن إنسان إنه حارٌّ في الروح، والعكس صحيح.

طبيعة النار بصفة عامة أنها:

1- تعطي نورًا في الظلام.

2- تعطي استنارة للنفس.

3- تعطي راحة للقلب.

ولو لاحظتم كلمات الثلاث (نور، استنارة، راحة) تكوّن كلمة نار.

يقول القديس بولس الرسول في رسالته لأهل أفسس: «كيْ يُعطيَكُمْ إلهُ رَبِّنا يَسوعَ المَسيحِ، أبو المَجدِ، روحَ الحِكمَةِ والإعلانِ في مَعرِفَتِهِ، مُستَنيرَةً عُيونُ أذهانِكُمْ» (أف1: 17، 18). والقديس جيروم يقول لنا: "للنار طبيعة مزدوجة، تعطي نورًا وتحرق. إذا كنا خطاة تحرق الخطية، وإن كنا أبرارًا تضيء لنا الطريق". ولهذا حين يوصينا القديس بولس الرسول أن لا تطفئوا الروح، فهو يريد أن يقول: اجعل حياتك دائما حياة متوهّجة. القديس الأنبا انطونيوس له عبارة جميلة: "بسبب هذه النار يشنّ الشيطان هجمات كثيرة لعله ينزعها منكم، وهو يعرف أنه لا غلبة له عليكم ما دام لكم هذه النار"، بمعنى أنه ما دام قلبك ملتهبًا فهو قادر على الصمود ضد هجمات الشيطان، مثلما نرى في بعض المناطق الريفية، حين يوقد القرويون الحطب لطرد الناموس والحشرات.

دعونا نتأمل في ثلاث نقاط أساسية تسبّب انطفاء الروح...

1- محبة الماديات:

محبة الماديات هي أساسًا محبة خاطئة للذات، إنسان لا يرى في الوجود غير نفسه. محبة الماديات والمكاسب الشخصية والمصالح الشخصية تطفئ نار الروح التي في داخل الإنسان لأنها تشغله بشيء آخر.

في قصة شاول الملك، طلب منه صموئيل النبي أن يحارب عماليق ويفنيهم. وحاربهم شاول وانتصر عليهم وأسر أكبر ملوك عماليق ولم يقتله، لكن وضعه أمامه حتى يفتخر انه أسر ملكًا، ثم احتفظ بالغنائم، حتى جاءه صموئيل النبي وأعلمه بغضب الله، وقال له العبارة المشهورة «هوذا الِاستِماعُ أفضَلُ مِنَ الذَّبيحَةِ، والإصغاءُ أفضَلُ مِنْ شَحمِ الكِباشِ» (1صم15: 22)، وانصرف صموئيل، وحاول شاول أن يمسكه، فجذب طرف الجبة التي كان يرتديها حتى تمزق، فقال له صموئيل العبارة الرهيبة «يُمَزِّقُ الرَّبُّ مَملكَةَ إسرائيلَ عنكَ اليومَ ويُعطيها لصاحِبِكَ الّذي هو خَيرٌ مِنكَ». الشيطان يحاول أن يغرينا بالحياة المادية كل يوم بصور متنوعة، لذلك افحص قلبك حتى لا يكون متمسكًا بالماديات بصورة مزعجة، وتعرفون المثل اللاتيني الذي يقول: "الكفن ليس له جيوب".

2- الشهوات:

الشهوات الجسدية وتقف على قمتها شهوة الأكل، وأكثر مرض يعاني منه الإنسان المعاصر هو مرض السمنة، 20% من السكان عندهم هذا المرض في مصر. شهوات الجسد بصفة عامة بكل أشكالها وصورها: شهوات الشراء، شهوات جنسية، شهوات في الطعام، في الملابس... كل هذه الشهوات تجعل روح الله العامل فيك ليس متوهجًا. أقرب مثال لأذهننا شمشون، وقصته مشهورة، وقوته وعظمته وتباهيه بهذا كله وافتخاره، ولكن عندما جاءت دليلة وكانت إنسانة خاطئة، وضعف أمامها بسبب شهوته فابتدأت تذله حتى عرفت سر قوته.

3- الفلسفات:

كلمة فلسفة كلمة جميلة، معناها: محبة الحكمة. ما أروع أن يكون الإنسان حكيمًا. ولكن توجد أنواع من الفلسفات المجردة والتي تصل بالإنسان إلى إنكار وجود الله، وتصل إلى الإلحاد، وتصل إلى الأفكار الشاذة. على سبيل المثال: عاشت البشرية منذ بدء الخليقة وإلى أن تنتهي تعرف شكلًا واحدًا للزواج: الزواج بين رجل وامرأة، لا يوجد شكل آخر. وعندما عُقِد مؤتمر السكان في مصر سنة 1994، وكان مؤتمرًا دوليًا، اكتشفوا في نصوص المؤتمر عبارة "كل أشكال الأسرة، وكل أشكال الزواج"، وتوقفت كنيستنا عند كلمة "أشكال"! أيّة أشكال للزواج؟ هناك شكل واحد. اليوم توجد صيحات في العالم تنادي بما يُسمّى بالزواج المثلي، وبدأ الداعون له يضغطون على الحكومات لتقبله، وللأسف الشديد أخذوا علامة من علامات الكتاب المقدس التي أوجدها الله في الطبيعة، علامة قوس قزح، لتكون علمهم! هذا هو النوع الذي أقصده من الفلسفات التي تطفئ الروح طبعًا. في المقابل هناك فلسفات روحية، مثل القديس بولس.

ما هو شكل الإنسان الذي انطفأ فيه الروح؟

1- عقله مظلم

وكثيرًا ما نقابل أمثال هؤلاء في حياتنا. والأمر لا علافة له بالتعليم، فقد تقابل شخصًا متعلمًا لكن عقله مظلم. ماذا أقصد بالعقل المظلم؟ أن يفقد الإنسان القدرة على التمييز والإفراز. النار تعطي نورًا يرشر، وإن انطفأت يغيب النور، ويفقد الإنسان الاستنارة لروحه. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "إن اللصوص عند سلبهم بيتًا، فإنهم إذ يدخلون يطفئون السراج الذي فيه، حتى يقدروا أن يحققوا غايتهم. هكذا فإن عمل الشيطان الرئيسي عند اقتحام قلب المؤمن هو تحطيم عمل الروح فيه حتى يسلبه كل حياته".

2- الفتور الروحي:

يُصاب الإنسلن بكسل روخي أو فتور، والفتور يتحول إلى برودة روحية، والبرودة تتحول إلى غربة روحية، وأحيانًا تتحول الغربة الروحية إلى حالة من حالات العجز الروحي! وتوتفع الحرارة الروحية للإنسان قليلًا قليلًا من خلال الممارسات الروحية من صلاة وقراءة وحضور التسبحات والقداسات والاعتراف... القديس الأنبا أنطونيوس يقول: "بدون تدفئة البيض لا يخرج الفرخ حيًّا، هكذا أيضًا بالنسبة للنفس، إذ يحيط الله بالنفوس التي تطيعه زيرفعها إلى الحياة الروحية".

3- يشعر بالتوهان:

تائه في حياته، مرتبك في أموره، يقوم من حفرة ليسقط في أخرى، وهو لا يدري! يسمي الآباء ذلك في كتاباتهم "الغفلة"، إنسان غافل، لا هو مستيقظ ولا نائم، ولا يشعر لحياته بمعنى، وقد يتطور الأمر معه فينهي حياته بيده وينتحر.

كيف يشعل الإنسان الحرارة الروحية؟

أضع أمامكم ثلاثة اقترحات لهذا العلاج...

1- روح الصلاة:

الصلاة هي التي تشعل نار الروح فينا، وقد اختبرنا في حياتنا في الدير كيف يكون الراهب متعبًا في بداية التسبحة، ويريد أن يكمل نومه، وبعد ما يبدأ في التسبيح تدب فية حرارة، وعند انتهاء التسبحة يجد نفسه نشيطًا في بداية اليوم الجديد، ويشعر بدفقة من دفقات الروح في داخله. يقول المزمور: «عِندَ لهَجي اشتَعَلَتِ النّارُ. تكلَّمتُ بلِساني» (مز39: 3). مادمتَ قريبًا من الله بواسطة الصلاة، ستجد الروح دائمًا مشتعلًا فيك، وقلبك حارًا. يقول لنا الشيخ الروحاني: "تتقد في النفس نار محبة المسيح بالصلاة". وأقصد الصلاة بكل أشكالها، التي نصليها في الكنيسة، وصلواتك الخاصة. والمهم أن تصلي كل حين، وتكون على اتصال دائم بمسيحك. يقول القديس ثيئوفان الناسك: "حافظ على اشتعال موقدك الداخلي بتلاوة الصلوات القصيرة ومراقبة مشاعرك لئلّا تبدد حرارتها". ومن التقاليد الكنسية والنسكية الصلوات القصيرة "يا ربي يسوع المسيح ارحمني انا الخاطئ"، والتي يمكن أن تتلوها في أي وقت، ومن يصلي هذه الصلاة باستمرار تصير مشاعره وروحه دائما دافئة وحارة بعمل الله فيها.

2- المحبة:

في سفر النشيد توجد آية جميلة: «مياهٌ كثيرَةٌ لا تستَطيعُ أنْ تُطفِئَ المَحَبَّةَ» (نش8: 7)، لأنه حيثما يوجد الحب الحقيقي يوجد الله. حتى القديس بولس الرسول حين تكلم عن الإيمان والعقيدة وشرح شروحات جميلة في رسائله، قال عن الإيمان إنه عامل بالمحبة (غل5: 6). وسيلة التعبير عن الإيمان هي المحبة، هي الترمومتر الذي أقيس به الإيمان. المحبة تعطي لك وقاية ضد انطفاء الروح، وتحول الإيمان النظري إلى إيمان عملي. حينما يشتعل حب الله في القلب، يكون الحب هو أساس كل علاقاتنا مع كل أحد، القريبين والبعيدين والغرباء وحتى الأعداء. وكما غفر الله لنا، نغفر للآخرين. وكما صالحنا، نتعلم أن نتصالح مع الآخرين.

3- التوبة:

حينما وقع داود النبي في خطيته مع زوجة أوريا الحثي، وقال مزمور التوبة بعدما اعترف أمام ناثان النبي، قال: «ارحمني يا الله كعظيم رحمتك... قلبًا نقيًا اخلق فيّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدّده في أحشائي. لا تطرحني من قدام وجهك، وروحك القدوس لا تنزعه مني» (مز50). الخطية تطفئ عمل الروح وتبرّد الإنسان، ولكن بالتوبة يسترجع الإنسان حرارته الروحية وقوته. في مقابلة السيد المسيح مع المرأة السامرية، تجدوها في بداية المقابلة شخصية جافة جدًا، ولكن في نهاية المقابلة تجد إنسانة متقدة روحيًا وكأنها وُلِدت من جديد. توبة الإنسان تساعده ألّا يطفئ سراجه، ولهذ تنادي الكنيسة بالتوبة باستمرار.

ختامًا...

لا تنسَ أن نار الروح القدس تعطيك نورًا في الظلام، واستنارة للنفس، وتعطيك وراحة للقلب.



  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx