لما كان السيد المسيح في تجسده قد اتخذ جسدًا كاملًا، فمن الطبيعي أنه عند ولادته كان صامتًا لا يتكلم. ومن السهل أن نستنتج أنه مثل كل الأطفال تعلم الكلام تدريجيًا حتى تكلم بشكل كامل في عامه الثاني بالتقريب. يعني ذلك أن السيد المسيح أتى إلى عالمنا صامتًا وقضى أول عامين من عمره على الأرض بدون كلام.
لقد شغل صمت الله الكثيرين على مر العصور وبالأخص في فترات التجارب والآلام. فقد تساءل حبقوق قائلًا: «فلم تنظر إلى الناهبين، وتصمت حين يبلع الشرير من هو أبرّ منه» (حب1: 13)، وإشعياء تحيّر قائلًا: «ألأجل هذه تتجلّد يا رب. أتسكت وتذلّنا كل الذل» (إش64: 12). أمّا داود فتوسل إلى الله قائلًا: «اللهم لا تصمت لا تسكت ولا تهدأ يا الله» (مز83: 1)، وأيضًا: «يا إله تسبيحي لا تسكت» (مز109: 1). أمّا صفنيا النبي فقد رأى صمت الله من منظور مخالف تمامًا، فتغنّى به قائلًا: «في ذلك اليوم يُقال لأورشليم: لا تخافي يا صهيون. لا ترتخِ يداكِ. الرب إلهك في وسطكِ جبار. يخلص. يبتهج بكِ فرحًا. يسكت في محبته. يبتهج بكِ بترنُّم» (صف3: 16-17). وعذراء النشيد من فرط تلذذها بصمت عريسها تهللت قائلة: «أحلفكن يا بنات أورشليم ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء» (نش8: 4).
صمت الله عن الكلام لا يعني صمته عن العمل. فالطفل يسوع الصامت بين ذراعي العذراء كان يضبط الكون كله بكلمة فيه. بالمثل أيضًا لما مات ووُضِع في القبر كان صامتًا عن الكلام بينما كان يعمل بقوة مناديًا للذين في الجحيم بالعتق والحرية!
لقد عرفت السيدة العذراء كيف تتواصل مع ابنها الصامت، فقد اتحد وجدانها بوجدانه فلم يعد للكلمات احتياج. لقد كانت نظرة واحدة منه كافية لتعرف العذراء مشيئته. ولعل الله في تدبيره الحكيم قصد أن يولد طفلًا ويقضي الفترة الأولى من عمره بدون كلام ليعلمنا كيف نتواصل مع حضور الله الصامت مثلما فعلت السيدة العذراء. هذه هي إحدى مراحل الحياة الروحية التي جازها النساك والمتعبدون ووصفوها بكونها أغنى المراحل الروحية التي اتحدت فيها أرواحهم بالله، وفي صمت الاتحاد وحده تلقوا منه كل النِعم والأنوار: «لأنه هكذا قال لي الرب إني أهدأ وأنظر في مسكني كالحر الصافي على البقل، كغيم الندى في حر الحصاد» (إش18: 4). لقد انعكس سكون الله على أرواحهم فسكنت، وصار فيها هدوء عظيم كالحر الصافي وكغيم الندى.
ولا يستطيع الإنسان أن يتواصل مع حضور الله الصامت ما لم يصمت ويهدأ. لقد أفقدت المدنية الإنسان هدوءه وصار كل شيء اليوم صاخبًا. من أجل ذلك يحثنا الوحي الإلهي قائلًا: «بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم» (إش30: 15).
يا ليتنا نتعلم كيف نُسكِّت ليس فقط لساننا بل حواسنا وأفكارنا ومشاعرنا. فطفل المذود الصامت لا يسمعه إلا الصامتون. هؤلاء وحدهم هم المؤتمنون على أسرار المذود العجيبة!!