الأحتفال بعيد الغطاس عبر التاريخ
11 يناير 2013 - 3 طوبه 1729 ش
كان الاحتفال بعيد الغطاس لفترة ليست بقليلة يتم ضمن الاحتفال بأعياد "الإبيفانيا" وهي: الميلاد والختان والغطاس وعرس قانا الجليل. ومع الوقت استقلّ العيد لتبدأ بعده رحلة الصوم الأربعيني، ذلك قبل أن يتصل الصوم بأسبوع الآلام في وقت لاحق ليشكل فترة الخمسة وخمسين يومًا للصوم الكبير.
وتُعتبَر التسمية "عيد الغطاس" تسمية ارثوذكسية صميمة تعبِّر عن معمودية بالتغطيس وليس بالرشّ. وكان كلٌّ من عيد الغطاس وعيد الصليب من أعظم الأعياد شعبية ولا سيما عيد الغطاس الذي ظلّ لقرون طويلة عيدًا قوميًا يشترك فيه المسلمون مع المسيحيين بل والحكام أنفسهم أيضًا، غير أن الأقباط كانوا يدركون منذ البداية الأبعاد اللاهوتية للعيد إذ لم يكن هذا الزخم والثراء في الاحتفال – لا سيما في بدايته - بلا سبب قوي، كان الأقباط يخرجون إلى النهر في مواكب عظيمة ومعهم البطريرك والأساقفة والكهنة بالأيقونات والمجامر والكتب المقدسة، وكان الحكام يشتركون أيضًا في تلك الاحتفالات والتي كانت تستمرّ من الغروب وحتى الفجر، ليعود الموكب إلى الكنيسة حيث يُختَم الاحتفال بالقداس الإلهي.
وكما ارتبط العيد بالغطس بالماء ورفع المشاعل وإضاءة السُرُج وتوزيع االهدايا، ارتبط كذلك بتناول بعض الأطعمة، مثل القلقاس واليوسفي والقصب، وجميعها لها دلالات ترتبط بالعيد، فالقلقاس الذي يُزرَع مدفونًا في الأرض يشير إلى الدفن في المعمودية «مَدفونينَ معهُ في المَعموديَّةِ» (كولوسي 2: 13)، واحتياجه إلى الماء الكثير لينمو إشارة إلى مياه المعمودية، أمّا نقعه في الماء قبل تناوله للتخلّص من مادة سامة لزجة فيه فإنه يرمز إلى التطهُّر من سم الخطية الموروث عن آدم، بماء المعمودية. وكما يجب تقشيره ليؤكَل، هكذا التجرُّد من الملابس عند العماد إشارة إلى خلع الإنسان العتيق، وأمّا القصب فهو مليء بالماء من جهة، ومن جهة أخرى يحتاج في زراعته إلى الماء الكثير، كما كانوا يستخدمون أعواده ليرفعوها عاليًا وهم يعبرون النهر مثبِّتين في أعلاها ثمرة اليوسفي (وهو ثمر مملوء بالماء أيضًا، ومثله مثل القلقاس يحتاج إلى تقشير ليؤكل) بعد تفريغها ووضع شمعة داخلها. يرى البعض أن البرتقالة المنيرة تشير إلى الاستنارة التي ننالها بالمعمودية.
ومن تاريخ الكنيسة ومن المصادر التاريخية الإسلامية نقرأ في كتاب تاريخ مصر للمؤرخ ابن إياس (1448-1523) إن "نهر النيل كان يمتلئ بالمراكب والزوارق، ويجتمع فيها السواد الأعظم من المسلمين والنصارى، فإذا دخل الليل تُزيّن المراكب بالقناديل، وتُشعَل فيها الشموع، وكذلك على جانب الشواطئ يُشعَل أكثر من ألفي مشعل وألف فانوس، وينزل رؤساء القبط فى المراكب، ولا يُغلَق فى تلك الليلة دكان ولا درب ولا سوق، ويغطسون بعد العشاء فى بحر النيل، النصارى مع المسلمين سويًا، (وكان منادٍ ينادي إيذانًا بالنزول إلى الماء)، ويزعمون أن من يغطس فى تلك الليلة يأمن من الضعف فى تلك السنة". ويذكر المقريزي (1365-1442) في كتابه الخطط والآثار "إن عيد الغطاس كان عيدًا عظيمًا لدى الأقباط، ينزل فيه الرجال إلى الماء رغم شدة البرد"، أمَا المسعودي البغدادي(+957) فيصف في مؤلَّفه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" العيد في سنة 330ه (942م) حيث أمر الإخشيد محمد بن طغج أمير مصر، "بإشعال ألف مشعل، بخلاف ما أشعله الناس، وقد حضر بشاطئ النيل عند الفسطاط في تلك الليلة آلاف من الناس من المسلمين ومن النصارى، منهم من جاء في الزوارق ومنهم من جاء من الديار المحيطة بالمكان وآخرين على الشواطئ قدّموا كل ما يمكنهم من الأكل والشرب والملابس وآلات الذهب والفضة والجوهر والمرح. وهى أحسن ليلة تكون بمصر، وأشملها سرورًا، ولا تُغلَق فيها الدروب، ويغطس أكثرهم في النيل، ويزعمون أن ذلك أمان من المرض وإبعاد للداء". ولكن عزّ المُلك محمد المعروف بالمسبِّحي (977-1029) كتب في مؤلَّفه "أخبار مصر، وفضائلها، وغرائبها" أنه في أيامه تم منع المسيحيين من مظاهر تلك الاحتفالات، وبدأت في التقلّص تدريجيًا، فقد مُنِعَ النصارى من الغطس، وبعد أن كان عيدًا قوميًا يشترك فيه المسلمون مع الأقباط، مُنِع المسلمون من مخالطة الأقباط في أعيادهم بعد أن كانوا يأمرون بإيقاد المشاعل والشموع على حساب الدولة الفاطمية، حيث كانت الدولة تشارك الأقباط فرحتهم. ثم تأزّم الأمر أكثر أثناء الحكم العثماني، حيث تم الفصل بين الأعياد المسيحية والإسلامية.
وقال جمال الدين بن المأمون: إنه كان يوزع حصص من الفاكهة والحلوى على الجنود والموظفين، وكانوا يزينون كنائسهم بالشمع وجميع أنواع الزينات، وكان عيدًا عامٍّا وموسمًا عامًا في القاهرة والفسطاط وجميع بلاد القُطر، يُباع فيه من الشموع المزهرة بالأصباغ فلا يبقى أحد من الناس أعلاهم وأدناهم إلا وقد اشترى من ذلك لأولاده وأهله وكانوا يسمونها فوانيس ويعلّقون منها في الأسواق والدكاكين شيئًا يخرج عن الحد فى الكثرة والمَلَاحة. ومن شدة شغف الناس بتلك الفوانيس كنتَ ترى الفقراء يتصدّقون لشراء الفوانيس (والفوانيس ربما كانت تطويرًا لفكرة البرتقالة المفرَّغة وداخلها شمعة، السابق الإشارة لها).
وما يزال عيد الغطاس يحمل بهجة خاصة للأقباط، وما يزالون يتناولون الأطعمة ذاتها، ويسهرون في الليل ولكن داخل الكنيسة في التسابيح، ويستبدلون التواجد عند النهر بليتورجية اللقان، ثم يختمون الاحتفال بالقداس الإلهي، ويميلون إلى عماد أولادهم في مناسبات ثلاث: عيد الغطاس وأحد التناصير وسبت الفرح. وما يزال طقس الكنيسة فيه احتفال لمدة ثلاثة أيام بالطقس الفرايحي والقراءات ذاتها، والسبب على ما أعتقد هو عِظَم العيد واتساع الاحتفالات به مما لا يكفي معه يوم واحد، شأنه في ذلك شأن عيد الصليب أيضًا من حيث الطقس الفرايحي والامتداد لثلاثة أيام