أهنئكم أيها الأحباء بعيد الغطاس المجيد، أحد أعيادنا السيدية الكبرى التي نحتفل بها خلال العام. ونحتفل في عيد الغطاس مثلما نحتفل في عيد الميلاد والقيامه بالقداس الليلي.
يأتي عيد الغطاس بعد عيد الميلاد وعيد الختان، ويلحقه أيضًا عيد عرس قانا الجليل وعيد دخول السيد المسيح إلى الهيكل.. وهذه الأعياد الخمسة في مدة أربعين يومًا تبدأ بالميلاد.
وعيد الغطاس له أسماء عديدة، يُسمّى "عيد الإبيفانيا" أو "عيد الظهور الإلهي" أو "عيد الثيئوفانيا" أو "عيد الأنوار" أو "عيد النور" أو "عيد العماد"... والمشهور في كنيستنا بعيد "الغطاس". وعندما نسمي عيد الغطاس أنه عيد النور أو عيد الأنوار، نعي انه عيد للفرح. والفرح الذي نحتفل به في عيد الغطاس هو فرح عميق في التاريخ، وله جوانب ثلاثة، يمكن أن نسميه "عيد الفرح الثلاثي". فهناك الفرح على مستوى التاريخ، وهناك الفرح على مستوى الكتاب المقدس، وهناك الفرح أيضًا على مستوى الروح أو المستوى الكنسي.
الفرح على مستوى التاريخ:
يرتبط بظهور يوحنا المعمدان. يوحنا المعمدان كان شخصية مهابة في المجتمع اليهودي.. وكان شخصًا غريبًا؛ ظهر للمجتمع له شكل معين وطعام معين، وكان ظهوره كما استمعنا في شهر كيهك عندما كانت البشارة لزكريا أبيه وأمه أليصابات بعد زمن طويل من صلوات كثيرة، طلبًا أن يُرسل الله لهما نسلًا. وأعطى الله العلامة لزكريا وأليصابات. وفي الوقت المعين جاء يوحنا المعمدان، وكان مجيئه مجيء فرح لكل أسرته وعائلته وقبيلته، بالأخص لأنه جاء بعد اشتياق كبير وطلبات كثيره رُفعت من كاهن بار وزوجته البارة كي يهبهما الله نسلًا. فكان مولده فرحة كبيرة، وصار معروفًا لدى الناس. قال عنه ربنا يسوع المسيح إنه أعظم مواليد النساء.. فكان فرح أليصابات فرحًا كبيرًا جدًا أن يعطيها الله "أعظم مواليد النساء".
وظهر يوحنا المعمدان قبل السيد المسيح، وبدأ ينادي مناداة كانت تبدو غريبه في ذلك الوقت: «توبوا لأنه قد اقترب منكم ملكوت الله». وابتدأ يمشي حول نهر الأردن والجموع تمشي وراءه، يسألونه: ماذا نعمل؟ فيقول لهم أن ينزلوا إلى مياه نهر الأردن، ويعتمدوا. وابتدأ ينادي وتأتي إليه جموع كثيره جدًا وصاروا معجبين مما يحدث، لكنهم فرحون؛ فرح بحسب العهد القديم أن يتوب الإنسان لكي ما تُغفر خطيته.
وابتدات الجموع تتوافد لنوال العماد. لكن يوحنا المعمدان لأنه كان انسانًا صادقًا، تنبأ أمام هذه الجموع كلها أنه «يأتي بعدي من هو أقوى مني»، فصاروا متعجبين مما يقول، لأنه هو نفسه كان شخصية مهابة في مجتمعهم. ولكنه بدأ يخبرهم بعمل المسيح الذي "سيأتي ويعمدكم بالماء والروح، ومعموديته لمغفرة الخطايا"، وأن معمودية يوحنا هي معمودية شكلية رمزية، أمّا معمودية السيد المسيح فهي تحقيق الرمز، والفعل نفسه. بدأت الجموع تأتي إلى حيث كان يوحنا المعمدان والكل يتكلم عمّا يصنعه يوحنا بأنه أمر غريب لكنه كان أمرًا مفرحًا. هذا هو الفرح على مستوى التاريخ.
الفرح على مستوى الكتاب المقدس:
كان الفرح أن يوحنا المعمدان يمارس هذا العمل كل يوم، والناس تأتي إليه لينزلهم إلى المياه ويخرجهم. ونهر الأردن ليس عميقًا، إذ يتراوح بين متر أو مترين، وهو نهر محدود. وفي وسط هذه الجموع ظهر المسيح أمامهم وقال له: "أنا أتيت لأعتمد منك، لأنه يليق بنا أن نكمل كل بر". في هذا اللقاء يتقابل يوحنا المعمدان، والذي يمثل العهد القديم أو نهاية العهد القديم، مع السيد المسيح الذي بدأ العهد الجديد. وهذه المقابله الجميلة هي صدى لمقابلة الأمهات، تلك التي نذكرها في الأحد الثالث من شهر كيهك، أن العذراء مريم ذهبت لزيارة أليصابات. أليصابات كانت امرأة عجوز، والعذراء مريم صبية صغيرة. أليصابات تمثل العهد القديم، والعذراء مريم تمثل العهد الجديد. وكأن العهد القديم الممثل في اليصابات، يسلّم للقديسة مريم بداية العهد الجديد، تمامًا مثلما حدث في لقاء يوحنا المعمدان مع السيد المسيح.. وكان هذا اللقاء مفرحًا. في البداية استعفى يوحنا من هذه المهمة، لكن السيد المسيح في رقه ولطف يقول له: «اسمح الآن، ينبغي أن نكمل كل بر»، فقام بعماده. ونلاحظ أن يوحنا المعمدان عندما شهد أنه ليس مستحقًا أن ينحني ويحل سيور حذاءالسيد المسيح، هذه اليد التي ستحل سيور حذائه، هي التي عاشت في الاتضاع، هي اليد التي وُضِعَت على المسيح في المعمودية.
وتعمّد السيد المسيح وكان عماده له فرح خاص، فكان عمادًا مختلف عن كل العماد الذي تم قبل ذلك، وفي وقت العماد وعندما نزل السيد المسيح إلى الماء وغطس، جاءت حمامة تمثّل الروح القدس واستقرت عليه، وفي نفس الوقت انشقت السموات وانفتحت وسُمعت العبارة التي قالها الآب السماوي «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت». سُررت، أي فرحت.. وهذا هو الفرح الكتابي؛ فعمل المعمودية في عماد السيد المسيح كان يوم فرح، وكان أول عمل يصنعه السيد المسيح علانية أمام جميع الناس. بعدها كانت التجربة ثم الخدمة الجهرية.
وصار يوحنا المعمدان هو الملاك السابق للسيد المسيح، أكبر منه بستة أشهر زمنيًا، وهو أيضًا السابق والصابغ لأنه هو الذي قام بالمعمودية. وهو الشهيد الذي استُشهِد في القصة المشهورة في إعلان الحق.
الفرح الروحي:
وهو ما نستشعره جميعًا عندما نقوم بممارسة سر المعمودية، يوم المعمودية يوم تاريخي في حياة كلٍّ منا. فرحت أسرنا يوم معموديتنا كما تفرح اليوم كل أسرة وهي تستعد لتقديم طفلها لنوال سر المعمودية. وهذا اليوم يا أحبائي نسميه يوم الميلاد السمائي، أنت لك عيد ميلاد على الأرض له تاريخ وهذا التاريخ معروف ومهم، ولكن أيضًا لك التاريخ الأهم وهو عيد الميلاد السمائي، يوم وُلِدت من الماء والروح، وصارت المعمودية هي الباب أو المفتاح الذي يفتح أمامنا الحياة الروحية والحياة الكنسية، وأيضًا الحياة السماوية. فصارت المعمودية باب الأسرار المقدسة. ويأتي يوم المعمودية بتفاصيله الجميلة: جحد الشيطان ورفض الخطية، وقبول الإيمان، والإشبين الذي يتعهد بتسليم الإيمان للطفل الصغير، سواء الأم أو الأب.. صار يوم فرح، فنجعل للطفل ملابس بيضاء رمزًا للنور، ونضع له الزنار الأحمر رمزًا لدم المسيح الذي سُفِك على الصليب من أجل خلاص كل إنسان.
يبدأ سر المعمودية، سر الفرح، وننزل جرن المعمودية كأننا نزلنا نهر الأردن، والأب الكاهن يقوم بمعمودية الطفل في ثلاث غطسات وكأن الطفل مدفون كما يقول بولس الرسول «مدفونين معه في المعمودية». ثم ينال الإنسان السر الثاني: سر التثبيت، سر الميرون، ويُرشم في جسده 36 رشمًا، وتصير أعضاؤه مدشنة-مكرسة-مخصصة للمسيح، فيصبح الإنسان ملكًا للمسيح، وتصير له هذه النعم الجديدة. وتكتمل النعم في يوم المعمودية في سر الإفخارستيا (التناول). بالماء نولد وبالزيت نثبت وبالافخارستيا نتغذى ونحيا ونعيش.
وبعد عماد السيد المسيح واستشهاد يوحنا المعمدان، قال السيد المسيح هذه العبارة الجميلة: «قد كمُل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل»... ويمكن أن نعتبر أن هذه هي رسالة المعمودية أو عيد الغطاس المجيد، «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله». كلمة "اقترب ملكوت الله" قالها السيد المسيح منذ 2000 عام، بمعنى أن الإنسان عليه أن يكون دائمًا مستعدًا. فماذا نفعل إذَا؟..
1) توبوا: وهنا التوبة بصيغة الجمع، أن ننهض ونشجع بعضنا البعض على هذه التوبة، واستعادة ثوب المعمودية الأبيض، ذلك الثوب المفرح. فكأن توبوا هنا هي إستعادة الفرح عندما يسقط الإنسان في الحزن والهم أو الكآبة، فيدرك انه يوجد خلل ما، فيقوم لينقي نفسه ويعود إليه الفرح. فالتوبة وثيقة الله بالفرح، عندما تتوب تفرح بتوبتك، وتجلب الفرح لحياتك.
2) "آمنوا بالإنجيل": آمنوا بالوصية. أحد الحروب التي نُحارَب بها كل يوم أن نظن أن الإنجيل للبركة، كلام حلو، لكن أن تصدق الإنجيل وتصدق الوصية وتصدق الوعود وتصدق الكلمة هذه هي القضية الأهم. السيد المسيح نبّهنا منذ ألفي عام: "آمنوا بالإنجيل.. آمنوا بالوصية..آمنوا بالوعد"، آمنوا هنا يعني أن تصدّق، أن تكون على يقين. صَدِّق للكلمة التي تقرأها، واعرف أن الإنجيل لم يُكتَب للهلاك ولكنه كُتِب للحياة. لكي تعيش بالوصية، إذ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله..
فلنفرح يا إخوتي إذًا في هذا العيد المجيد.