يقولون إني سائح..
نيافة الأنبا مكاريوس
25 يناير 2013 - 17 طوبه 1729 ش
كل ما هنالك أنني خرجت من باب الدير لأتمشّى قليلاً في الصحراء، وواصلتُ السير حتى مال بي النهار ولم أستطع العودة من حيث خرجتُ، فجلستُ مكاني. وبعد قليل أرخى الليل سدوله فكسا الطبيعة بثوبه المهيب.. وقفت أصلي ولم أعرف كم من الوقت مرّ وأنا أصلي، ولكني وجدت سعادة لم أعهدها من قبل على مدار السنوات التسع التي قضيتُها في حياتي النسكية.
أحسستُ بالجوع، وتحسّستُ جيوبي فوجدت خبزة كنت قد حملتها قبيل خروجي، فأكلتها بشكر وكانت ألذّ ما دخل جوفي قاطبة. ولمّا شعرت بالنعاس رسمت بعصاتي على الأرض دائرة وعلى محيطها رشمت عدة صلبان، ثم نمت نوما عميقًا لأصحو عند الفجر الموعد الذي نقدم فيه التسبحة يوميًا...
عندما أردتُ العودة إلى الدير لم أره أمامي بالطبع إذ كنت قد مشيت طويلاً، ولكني خمّنتُ الجهة التي يُحتَمَل أن يكون فيها، وغذّيت المسير ولا أعرف بالضبط كم من الوقت مشيت ولا كم من مسافات قطعت!! فلمّا انتصف النهار اكتشفت أنني فقدت الطريق إلى الدير.. ولم أعبأ بذلك فلم يكن يعنيني إلاّ الطريق إلى الله وهو الهدف الذي خرجت من أجله تاركًا العالم.. فواصلت المسير في ذات الاتجاه، ولمحت قرية عن بُعد فاتجهت إليها لأحصل على بعض الخبز والماء، أمّا هذا فقد كان سهلاً وأمّا الخبز فقد كان عليّ أن أشتريه ولم يكن معي نقود بالطبع. فيما كنتُ متحيّرا أقبل إنسان ذو هيبة ووقار، نزل عن حماره فاشترى لي الخبز، ولما عرف أنني فقدت الطريق عرض علي مساعدتي، فلما اعتذرت له وهبني حماره ليساعدني في طريق العودة، ولما كان مصرًّا فقد أذعنت لرغبته واتجهتُ لفوري نحو الجبل لا أعرف كيف أعود. وفيما أنا متفكِّر في هذا إذا بفكرة قد لمعت في عقلي ألا وهي: لماذا لا أحيا هكذا دون دير ولا بشر ولا مأوى؟.. ألم أخرج من أجل وجه المسيح!؟ فلأقضين بقية حياتي هكذا..
في الصحراء اخترتُ بقعة بها عدّة نخلات، ولما كنت خبيرًا بقطع خوص النخل فقد أعددتُ لنفسي كوخًا صغيرًا لأحيا فيه، أصنع من الخوص ما يمكن أن أحصل من ثمنه على طعامي وطعام الحمار الذي أصبح رفيق رحلتي، آخذها فوقه وأتجه نحو أقرب قرية لأبيعها وأحصل من ثمنها على ما أريد وأتصدّق بالباقي على فقراء المكان، ولكن البعض تتبّعني وعرف مكاني فاضطُرِرت من ثمّ أن أغادره إلى آخر لم أحدّده. ووقع اختياري على موضع آخر على بعد 70 كيلومترًا من المكان الأول، ولمّا كان المكان بعيدًا عن القرى فقد اعتمدت في طعامي على البلح ونبع ماء غير بعيد... وقد مرّ بي في تلك البقعة عدّة آباء من السوّاح على فترات، ومنهم علمتُ أن هناك كنيسة في مكان قريب يؤمّها بعض السواح، فكنت أذهب إليها بين وقت وآخر لأتناول من الأسرار المقدسة، ولم يحدث مرة واحدة أن تكلم معي أحد وكذلك أنا...
ولم أشعر بالوقت وهو يمرّ سريعًا؛ كنت أصلّي بالساعات، وأقرأ في الكتاب المقدس الذي خرجت به عدّة أسفار في المرة الواحدة، كما كنت أكتفي بوجبة واحدة من الطعام في اليوم.. وذقتُ سعادة لم أعهدها في حياتي من قبل، بل وحتى الثياب التي تهرّأت لم استطع الحصول على غيرها، فعشت عاريًا مدة من الزمن..
وانقطعت أخباري عن الجميع كما انقطعت بالتالي أخبار الجميع عني، وهكذا قضيت حياتي بين الوهاد والجبال، يكفيني من الطعام ما يسدّ الرمق، ومن الثياب ما يستر جسدي النحيل، وأمّا المسكن فلم يكن لي مسكن بالمعنى الدارج، بل كلما استقرّيت في مكان ما أتركه إلى آخر.. حرّية لم أعهدها من قبل.. وها أنا سعيد بحياتي هذه إلى أن يفتقدني الله فيكمل فرحي فيه.. فهل هذه سياحة؟.. إني متعجب من الناس كيف يقولون إني سائح!!