القديس أنطونيوس كأب لفكرة وطريق، وأب لمنهج روحي جديد (من كتاب تأملات في حياة القديس أنطونيوس - بتصرّف
مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
25 يناير 2013 - 17 طوبه 1729 ش
القديس الأنبا أنطونيوس له فضائل وميزات عديدة، لعل من الأشياء التي نذكرها في مقدمة ميزات هذا الإنسان البار، أنه أحد الأوائل.
أقصد أنه واحد من الذين شقّوا طريقًا جديدًا، طريقًا صعبًا وجميلاً، لم يسبقه إليه أحد من قبل.
رهبان كثيرون ملأوا الدنيا آلاف وملايين. لكنه كان أول راهب في العالم، له مكانته، لأنه أول من سار في الطريق، وأول من وضع نظمه وأسلوب حياته، وأول من شرحه للناس وعرّفهم به.
إن الأوائل الذين بدأوا الطريق، لهم مكانتهم.
كلنا، إن سرنا في طريق الرهبنة، إنما نتبع أقدام القديسين الأوائل، وكما ساروا نسير. أمّا القديس الأنبا أنطونيوس، فحينما شقّ طريقه في الرهبنة لم تكن هناك أقدام سبقته في هذا المجال من قبل.
إنه أب لطريق، بل أب لأصعب طريق، طريق الموت عن العالم، طريق التجرد الكامل عن كل شيء.
وقد سار في هذا الطريق وحده، لما بدأ..
عظمة الأنبا أنطونيوس، أنه لم يوجد أحد يقوده ويرشده في الرهبنة بل هو الذي قاد وأرشد الكل.
كل من يترهّب حاليًا، آباء ومرشدون، يشرحون له كيف يبدأ، وكيف يتدرّج وينمو. ويحكون له أسرار الحياة الرهبانية وأعماقها وطقسها، ويظهرون له حروب وحيل الشياطين، وكيفية الانتصار عليها.. ويمسكون بيد هذا المبتدئ، ويقودونه خطوة خطوة، حتى يصل..
أما الأنبا أنطونيوس فلم يجد له مرشدًا، وسار وحيدًا.
يقول الكتاب: «اِثنانِ خَيرٌ مِنْ واحِدٍ، لأنَّ لهُما أُجرَةً لتَعَبِهِما صالِحَةً. لأنَّهُ إنْ وقَعَ أحَدُهُما يُقيمُهُ رَفيقُهُ. وويلٌ لمَنْ هو وحدَهُ إنْ وقَعَ، إذ ليس ثانٍ ليُقيمَهُ» (جامعة 4: 9،10).
وكان الأنبا أنطونيوس وحده، ولكن لم يقع..
سار وحده في طريق الرهبنة، بلا أب، بلا مرشد، بلا زملاء في الطريق، بلا تعزية من أي إنسان. بل أيضًا بدون الوسائط الروحية المتاحة للجميع، بلا كنيسة.. بلا شيء يسنده في الغربة والقفر والوحدة والحروب.. سوى إيمانه بأن الله معه.
ومع ذلك لم يستصعب الطريق، بل سار وحده، ومعه الله.
لهذا نحن نكرم الأنبا أنطونيوس.. وكل الذين يترهبون الآن، مهما ارتفعوا، لا يمكن أن يصلوا إلى درجة هذا القديس فعلى الأقل الدفعة أتتهم من الخارج. هناك من تابعوهم في حياتهم الروحية النسكية، حتى وصلوا..
لكن الأنبا أنطونيوس، أتته الدفعة الأولى من داخله.
ولما دخل إلى الرهبنة في أيامه، دخل إلى المجهول..
سار في طريق لا يعرف معالمه، ولا يعرف حروبه.
إنه لم يكن أبا للرهبان فقط، إنما أبا للرهبنة ذاتها.
هو ذا الذي وضع أسسها وروحها، وقدم للعالم صورته.
وإن أردنا أن نفهم ما هي الرهبنة في أصولها، إنما نرجع في ذلك إلى الأنبا أنطونيوس..
لذلك كانت حياته ذات تأثير عجيب، أينما عرفت..
كانت سيرته مِسكًا لأنها كانت شيئًا جديدًا على العالم.. كانت حياته جديدة لم يعرفها العالم من قبل..
كل راهب في الدنيا يعتبر نفسه أبنا للقديس الأنبا أنطونيوس، ليس الأقباط فقط، وإنما الكاثوليك أيضًا، وكل الأرثوذكس شرقيين وغربيين، وكل محبي الوحدة في العالم.. الكل يشتركون معا في محبته، وفى إكرامه، وفى البنوة له.
لقد قدم للعالم كله حياة التأمل والصلاة، حياة الوحدة والسكون، حياة الزهد والتفرغ الكامل لله..
قدم لنا حياة جديدة، لا تستمد عظمتها من الخارج.
لا تستمد عظمتها من الألقاب، ولا من الجاه والسلطان، ولا من الوظائف، ولا من الكهنوت، ولا من الرعاية، ولا من العلم والجدل والمعرفة. إنما تستمد عمقها من الداخل، من الصلة الدائمة بالله، في حياة الروح.
هذا هو المنهج الجديد الذي قدمه الأنبا أنطونيوس. ونحن نكرمه كأب لهذا المنهج، ونقول:
مبارك هو الرب الذي منحنا الأنبا أنطونيوس.
وفتح لنا به بابا للسمائيات، وقدس أقداس وسط الجبال..
وقدس لنا رمل البرية، وتلالها، ومغائرها. وصارت مغارة الأنبا أنطونيوس مزارًا يتبارك به الناس من كل أنحاء العالم، ليروا مكانا حل الله فيه، مرافقًا للأنبا أنطونيوس ومباركًا.
ونشكر الله لأن الأنبا أنطونيوس فبل أن يقود الرهبنة. لم يصر أن يحيا وحده كالأنبا بولا، في عزلة كاملة عن العالم، يقضى حياته كلها لا يرى وجه إنسان..
مبارك هو اليوم الذي قبل فيه الأنبا أنطونيوس، أن يرشد آخرين، ويعلمهم هذا الطريق الملائكي الذي أختبره.