الخلق هو بداية الزمن الكوني، والتجسد هو مركز التاريخ الإنساني، أمّا الأبدية فهي نهاية الزمن وكمال الإنسانية. الخليقة هي إعلان عن الوجود الإلهي، فالله هو سر الوجود، لذلك كل وجود هو إعلان عن حقيقة وجود الله، فـ«به كل شيء كان، وبغيره لم يكن شيء ممّا كان». الخليقة في جوهرها هي تجسيد للمحبة الإلهية، وإعلان للإرادة الإلهية، وإظهار القدرة الإبداعية لله. فالحب المتدفق من الله الثالوث، أراد أن يكون الإنسان، فأوجده في إطار زماني وحيّز مكاني، فكان بداية التاريخ. فالخليقة والكون كتاب مفتوح يعلن مجد الله.. فإذا أردت أن تعرف شخصية الفنان، فما عليك إلّا التأمل في لوحاته. هكذا في الخلق نفهم القدرة الالهية والقوة الإبداعيه لله، فالخليقة تعطينا صورة أوّلية عن الله، ولكن الله لا يكتفي بصورة أولية عن شخصه، بل يدخل في أعماق التاريخ الإنساني والزمن البشري، يتدخل الله بأفعال بشرية تتماشى مع الخطة الإلهية، وبحسب الاحتياج الإنساني، فالتاريخ البشري هو مجال وموضوع إعلان الله عن ذاته وعن علاقته بالإنسان.
ولأن السقوط في الخطية كان مخالفًا للخطة الالهية، لذلك كان لابد أن يتدخل الله لإنقاذ الإنسان وخلاصه. لذلك صار للخلاص تاريخ يؤرَّخ، وأحداث تُسطر، وشخصيات تصنعه. لقد قسم الرب يسوع بميلاده التاريخ الخلاصي لما قبله وما بعده. ما بين إعداد وتحقيق، ظلال وأصل، رمز وحقيقة. فما قبل المسيح يختلف كثيرًا عمّا بعد ميلاده. في العهد القديم جاء الخلاص مرتبطًا بتاريخ شعب "بني إسرائيل"، فالعهد القديم يحكي لنا تاريخ شعب بني إسرائيل، هذا الشعب الذي اختاره الله من بين الشعوب ليعلن من خلاله مجده وجلاله. هي حقًا قصة تاريخية تشمل أشخاصًا وأحداثًا، ولكنها في الحقيقة قصة خلاصية في أهدفها، ورمزية أحداثها وشخصياتها. فالخلاص في العهد القديم كان خلاصًا ماديًا، مرتبطًا بدعوة ابراهيم، ونجاة شعب بني إسرائيل من أرض مصر، ثم تكوين المملكة، والعودة أخيرًا من السبي. الأنبياء كانوا صوت الله الصارخ والواضح، الذين أعلنوا وعود الله وخلاصه، ليس فقط من يد أعدائهم ومبغضيهم، ولكنهم كشفوا أيضًا عن الاحتياج الحقيقي للخلاص الروحي من الخطية، ومجيء المسيا، وإفاضة روح الله، وتحقيق عهد جديد بين الله وشعبه.
يوحنا المعمدان هو نبي العهدين، حمل في شخصه كل اشتياقات الأنبياء ورسالتهم بقرب مجيء المخلص. وعندما ذهبت العذراء لمقابلة أليصابات، سجد يوحنا، ثم تهلّل، وأعلن أن العمل النبوي قد انتهي بمجيء الحَمَل الذي سوف يرفع خطايا العالم. لقد كان تجسد الرب يسوع مركز التاريخ الخلاصي، فما قبله هو تمهيد للخلاص، وما بعده هو تحقيق للخلاص. فلقد تجسد في منتصف التاريخ وقسمه.
والكنيسة هي امتداد للعهد الخلاصي. فعندما رفع التلاميذ عيونهم شاخصين لفوق، قال لهم الملاك: «ما بالكم واقفين تنظرون للسماء...»، فعليهم أن يذهبوا للبشر ويقدموا البشارة للعالم كله، ثم أخذوا قوة الروح القدس ليتمّموا خلاص الله بخوف ورعدة. الكنيسة هي مكان التقاء نعمه الله المُخلِّصة وإرادة الإنسان الحرة. الله يقدم نعمته سرائريًا، والإنسان يقبل بفرح خلاص الله. والإنسان بقبوله لخلاص الله ونعمته، يحقق التاريخ الإنساني، ويقوده نحو الهدف النهائي وهو إعلان ملكوت الله «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله».
لقد أعلن الرب يسوع أنه سيعود لكي يدعو العروس(كنيسته) لتحيا معه في ملكوته.. فالتاريخ الإنساني قد ابتدأ بالمسيح، وسينتهي إليه. فهو أمس واليوم وإلى الأبد. وبمجيئه ثانيًا تبدأ البشرية عهدًا جديدًا وتاريخًا مجيدًا، لكنه فوق الزمن والمكان، هناك يكون الله كل شيء في كل شيء.