اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
السة 4810 يوليه 2020 - 3 ابيب 1736 ش     العدد كـــ PDFالعدد 25-26

اخر عدد

صديقتي - نُشرت في جريدة الأهرام يوم الجمعة 3 يوليو 2020م

قداسة البابا تواضروس الثانى

10 يوليه 2020 - 3 ابيب 1736 ش

أسكن بالطابق الثالث في بناية ذات أربع طوابق، وكنت أحب غرفتي بل وأعشقها رغم أثاثها البسيط جدًا.. سرير ودولاب وكرسي وسجادة بالأرض وإضاءة كافية بالسقف، كنت أحب الجلوس فيها ولوقت طويل، دون ملل أو ضجر.

ورغم أن لي مسكن آخر في مدينة أخرى... إلّا أن هذه الغرفة كانت تجذبني دائمًا في حياتي التي أعيشها بمفردي داخلها.

كنت أتساءل دومًا: لماذا أحب غرفتي هذا الحب الكبير؟ وعندما بحثت عن السبب... وجدت ضالتي!

في غرفتي نافذة مستطيلة ذات ضلفة زجاجية واحدة ومن خلالها يبدو المنظر رائعًا.

منها أرى امتداد السماء الصافية في خلفية المشهد الجميل والشمس تنيرها بضياء خلّاب كل صباح، وهناك شجرة كافور ضخمة وعالية حتى أن فروعها تصل إلى الطابق الرابع... ولكن هنا من النافذة أرى جزءًا يتمايل ويتراقص من هذه الفروع مع حركة الهواء... أنه فرع ممتد من الشجرة ومنه تخرج فروع أصغر وتتدلى منها الأوراق الخضراء المستطيلة، والتي مع حركة الهواء تصدر أصواتًا عديدة وكأنها تتنفس الهواء عندما يمر بينها...

ويكتمل المشهد بالعصافير المنطلقة والسابحة في الهواء.. تقف حينًا على فروع الشجرة، وحينًا آخر تتحرك وتمشي وتصدر أصواتها العذبة في تناغم بديع جدًا.

وكأني أستمع إلى لحن موسيقيّ رقيق... ولا يوجد غير أصواتها التي أشعر أنها تتكلم مع بعضها ربما بلغة تفوق معرفتنا...

والجميل أنه لا توجد أي أصوات بشرية.. السماء صافية والهواء نقيّ والشمس ساطعة والعصافير تعزف ألحانها وهي بفرح غامر وسلام تتحرك وتطير ولا تحمل همًّا أو قلقًا لأي شيء.

في كل صباح أجلس ساكنًا أمام هذة النافذة والتي أشعر أن الله يتطلّع إليّ من خلالها، وكنت دائمًا أتسأل عن سر هذا الجمال المدهش الذي أراه من خلال النافذة المحدودة في مساحتها.

في كل صباح أرى أفكاري وحياتي من خلال هذه النافذة المحيرة.

كنت أرى حبًا من خلالها يتدفق من السماء والشمس والشجرة والعصافير والأصوات والهواء والنور... أنها لوحة بديعة.

لقد وجدت هذة النافذة وكأنها تحدثني عن حياتي وأيام عمري وأنا الآن في نهاية العقد السابع من العمر وعرفت نافذتي منذ العقد الخامس ولم اكن ملتفتًا اليها إلّا الآن.

حركة فروع الشجرة أمامي حركة دائمة تمثل حركة أيام عمري ومراحل الحياة... أحيانًا تتحرك بحركات خفيفة وفي أحيان أخرى تكون شديدة وهكذا مرّت حياتي..

مراحل وأيام هادئة ساكنة في كثير من الأحيان ولكن كانت هناك مواقف شديدة وربما مؤلمة وربما قاسية... هل هي صدمات القدر عندما نفقد أحباء لنا أو نعاني ألمًا وتعبًا من آخرين؟ أو نجتاز أمراضًا وألامًا جسدية مبرحة ونحتاج جراحات خطيرة لعلاجها؟؟

وكأن النافذة تحكي وتصوّر مرور السنوات بحلوها ومُرّها..

لأن من الفروع تتدلّى الأوراق المميَّزة لشجرة الكافور ذات الرائحة العطرية المعروفة... وأتخيل أن هذه الأوراق تمثّل البشر الذين عرفتهم في مشوار الحياة الطويل.. سواء أقرباء أو أحباء أو حتى عابرين في حياتي... لا معنى للحياة بدون البشر ولا معنى للحياة بدون الحب الذي يجعل هذة الأوراق مترابطة على فرع الشجرة في انسجام عجيب.

الحب.. ذلك الإحساس الجميل الذي يشعر به الإنسان من خلال الآخرين، لقد أحببت معظم الذين عرفتهم.. أسرتي، أصدقائي، زملائي، معارفي، زواري... وأن تفاوتت مشاعر الحب من إنسان لآخر.

أشعر بالحب جدًا في علاقاتي الإنسانية... أشعر أنني أحمل قلبًا كبيرًا جدًا ويكاد أنني أصرخ في قلبي تجاه كل أحد "أنا بحبك".. أقولها عن إحساس وشعور عميق في داخلي، لا أذكر يومًا أنني خاصمت أنسانًا أو سمحت للكراهية أن تطرق باب قلبي.

وعندما وضعتني العناية الإلهية في بداية العقد السابع من عمري أن أكون مسؤلا كبيرًا، شعرت أن طاقة الحب تتدفق بالحقيقة مثل تدفق ينبوع المياه العذبة نحو الكل وبدون استثناء، حتى مع الذين أخذوا موقفًا مني أو عادوني أو أصدروا نقدًا وحكمًا على قراراتي.

إن أصعب المواقف كانت القساوة التي أجدها عند بعضهم..

وكأن قلبهم بلا رحمة، بلا إحساس، بلا حب...

وأتعجب كيف يوجد أناس بلا حب في حقل عمل مؤهّله الأول الحب؟!

إن الأوراق المتدلّية من فروع الشجر تروح وتجيء مع حركة الريح، ويأتي وقت الخريف ويتساقط بعضها جافًا بصفرة الموت ولكن الحياة تستمر.. لقد فقدت أعزاء وتألمت لغيابهم، ولكن مازال حبهم في قلبي.

أمّا العصافير التي تأتي أحيانًا وتقف على فروع الشجرة، وأراها منطلقة فرحة وتتحرك في انسيابية مذهلة يعجز عنها أهل الأرض، وأظن أن كل مرة يأتي عصفور أمام النافذة أنه يحمل رسالة خاصة من الله لي...

في حركته الرشيقة أشعر بيد الله الحانية، وفي صوته الرقيق أشعر بصوت الله الحنون، وفي مجيئه وذهابه أشعر بدفقات الحياة المتجددة.

كثيرًا ما عمل الله معي بشكل مذهل... في طفولتي لم أكن أدري تمامًا ما يحدث معي من نجاحات وإخفاقات... أتذكر آلام مرض والدي، ومعاناة والدتي، ومسيرة دراستي، وطبيعة عملي، وهدف حياتي.. وعندما أنظر إلى الماضي أتعجب وأندهش كيف مرّت حياتي هكذا محاطًا بيد الله القوية، وكأني ذلك العصفور الذي يتحرك بلا خوف ولا همّ بل في حرية وانطلاق وفرح.

كانت زقزقة العصافير بمثابة أصوات تسبيح وصلاة وبهجة واطمئنان... وهو شعور متبادل بينهم وبيني.

إنها بالحقيقة لوحة جمالية مدهشة وسط الهدوء والسكون وتطلُّعات الحياة من خلال هذه النافذة التي تجعلني أسبح في الماضي وأعيش الحاضر وأتطلّع إلى المستقبل في سلام وأطمئنان.

أشعر أحيانًا ان هذه النافذة مصدر سعادتي وبهجة قلبي، بل أنني أكاد أسميها " نافذة رجاء" لأنه كلما تعصف بي الحياة في مواقف صعبة وأحيانًا مؤلمة، أعود إلى "صديقتي" لأنال قسطًا من الرجاء عالمًا أن كل الأشياء تعمل معًا للخير... إن تفاصيل هذه النافذة وما أراه من خلالها لهو يعني لي أن الحياة حلوة وأنها بخير، رغم الشرور التي نجدها أو نسمع عنها... وأشعر أن مشاعري تجاه صديقتي هي مشاعر راحة وسلام...

هذة النافذة ترسم لوحة حياتي الجميلة.




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx