اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
السة 4821 أغسطس 2020 - 15 مسرى 1736 ش     العدد كـــ PDFالعدد 31-32

اخر عدد

تلذّذ بالرب...

قداسة البابا تواضروس الثانى

21 أغسطس 2020 - 15 مسرى 1736 ش

نشكر الله الذي أفرح قلوبنا بإعادة الفتح التدريجي لكل كنائسنا وأديرتنا بعد اغلاقها لأكثر من أربعة شهور بسبب انتشار وباء كورونا (كوفيد-19)، والذي داهم المجتمع الدولي فجأة منذ أوائل مارس الماضي في سابقة جديدة على الدول والحكومات والشعوب، وبصورة واسعة أدّت إلى توقُّف الأعمال والمدارس والجامعات والمطارات ودور العبادة، وصارت الإجراءات الصحية الفردية والجماعية هي الحاكمة طوال الفترة الماضية، خاصة وقد تعدّت الاصابات على مستوى العالم أكثر من 18 مليون شخص مع وفيات قاربت على المليون وفاة، مع سعي قويّ في الأبحاث العلمية لاكتشاف دواء أو أدوية، أو إيجاد لقاح يكبح جماح هذه الجائحة القاتلة. وكان من بين الإرشادات الأكثر انتشار وتحذيرًا: "اِبقَ في البيت" أو “Stay at home”، وتصدّرت هذه العبارة شاشات التليفزيون وشاشات الموبايل، بل وأيضًا نشرات الأخبار العربية والمحلية والعالمية.. وصار البقاء في البيت أحد أهم الوسائل لإيقاف انتشار الوباء، وكأنه حجز أو عزل منزلي فيه التباعد البدني أو الاجتماعي إلزامي وإجباري وعلى غير المعتاد لمعظم الناس.

وبسبب ذلك تغيرت طبيعة الخدمة الكنسية، وصار الاعتماد الأساسي على الخدمات الرقمية On-line من خلال برامج عديدة، وصارت الأسرة الواحدة بكل أفرادها متواجدة معًا ولوقت طويل، ولأيام وأسابيع ممتدة. وتنافست الكنائس في تقديم خدمات تعليمية وتربوية واجتماعية متنوعة، سواء للكبار أو الصغار الذين حُرِموا من متعة الخروج والفسحة والتنزّة والزيارات، وحتى المشي العادي لاستنشاق الهواء والرياضة والصداقة والصحبة...

صار الجميع في "خلوة" إجبارية، ولوقت غير معلوم مداه... ولكن نشكر الله على الانفراج التدريجي والخروج من هذه الأزمة الكبيرة..

وأريد أن أتحدث عن قضاء الوقت الممتع مع الله، وهو ما نسميه بـ"الخلوة"، لأن حياتنا في هذا العالم أصبحت معقدة ومزدحمة، والمتطلبات المُلحة في عصرنا تسرق منا الزمن، أو بصورة أخرى: إن حياتنا تنساب من بين أيدينا ولا نستمتع إلا بالقليل من السلام والفرح والهدوء وسط صخب الحياة وضجيجها، وربما أراد الله وسمح بانتشار الوباء حتى نأخذ فرصة لالتقاط الأنفاس والالتفات لحياتنا ووجودنا بدلًا من الساقية التي ندور فيها ليلاً نهارًا بلا توقف.

إن قضاء وقت ممتع مع الله والتفكير في كلمته هو دائمًا نعمة يحتاجها كلٌّ منّا بانتظام، وهذه جوهرة لا تُقدَّر بثمن، والكثير يرغبها ولكن القليل يمتلكها.

والخلوة الروحية الضرورية ليست:

1- مجرد مكان مادي محبب إلينا.

2- مجرد محطة لإعادة الشحن الروحي لحياتنا.

3- مجرد عيادة علاجية تداوي جراح الأيام.

4- مجرد الانفراد وعدم التحدث مع أحد.

5- مجرد تفريغ العقل من الهموم والأعباء.

6- مجرد حراسة أوقاتنا من الدخلاء.

7- مجرد عزلة أو وحدة من الأصوات الخارجية.

الخلوة هي وقت التواصل مع الله. المسيح نفسه كان كثيرًا ما يُرى ذاهبًا إلى مكان للخلوة وسط خضمّ الخدمة: «وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ» (مر1: 35).

والخلوة هي حالة الحضور في محبة الله والشعور العميق بذلك، حيث تتجدّد الحياة، ويفحص الإنسان وجوده الداخلي وكيانه الحقيقي، وما أصابه من جرّاء متطلبات الحياة الأرضية وأبعده عن الحياة السماوية. وفي حضور الله هناك معية مطلقة وانسجام وحرية الدخول إلى حضن الله المتسع.

وقال أحدهم ذات مرة: "إنني بعد فترة خلوة عُدتُ منزلي مكسور الخاطر لأنني رأيت الفرق بين أفكاري وأفكار الله". وفي مواجهة كلمة الله يكتشف الإنسان نفسه كما في مرآة. خاصة وقت الخلوة الهادئ والنقي، وكأنها فترة تقييم لنفس الإنسان الخاطئ أمام إله النعمة والرحمة والمغفرة.

والخلوة سواء كانت قصيرة، أي كل يوم بضع دقائق، أو طويلة كل فترة لعدة أيام، صارت لازمة جدًا حيث نحقق عدة فوائد لحياتنا:

أولاً: الخلوة تفتح أذهاننا وحياتنا للاحتياج لله.

ثانيًا: الخلوة تفتح قلوبنا لنعمة الله، لأن حالة السكون المقدس تجعل قلوبنا مستعدة لاستقبال نعمة الله التي تساعدنا في معرفة أخطائنا وسهواتنا وسقطاتنا، وتدفعنا للاعتراف والتوبة وطلب المغفرة والتخلّي عما سبق لبدء حياة جديدة برؤية جديدة.

ثالثًا: الخلوة تجعلنا قادرين على رؤية معنى الحياة وأحداثها والقصد ورائها.. وهذا الفهم يزيد سعادتنا ورضانا.

رابعًا: الخلوة تساعدنا على توضيح أفكارنا ومشاعرنا لنعيش حياتنا بصورة مستقرة فيها إجابة لأسئلة كثيرة تدور في رؤوسنا.

خامسًا: الخلوة إذ تقودنا إلى فحص النفس، فإنها تساعدنا على تقييم أفعالنا على مواقف حياتنا، خاصة أن الإنسان الحديث يعيش مرض "الانشغال المزمن".

والخلاصة أن الخلوة هي حركة تجديد داخلي وصولاً إلى الانضباط الروحي، والالتزام بالفضيلة في السلوك، وتأكيد الحب والنمو فيه، وذلك من خلال نظام روحي فيه المشورة الروحية من أب الاعتراف، والتدريب الروحي باستخدام الوسائط الروحية وعلى قمتها سر التوبة والاعتراف وسر التناول المقدس.

من فضلك اهتم بذلك جيدًا، فحدِّد زمانًا ومكانًا لخلوتك كل فترة مناسبة، واهتم بالهدوء في أماكن الطبيعة الجميلة، لأنك متعطّش إلى الله، وتريد أن تجمع شتات عقلك لتضعها أمام قلب الله في صراحة ورجاء في وعود الله لك. حاول أن تكتب مشاعرك وتأملاتك دون أدنى انشغال بالأجهزة الحديثة خاصة الموبايل. تذوّق حضور الله وزيارة النعمة في قلبك، ولا تتحجّج بعدم توفر الوقت لن هذه ضربة شيطانية.

اسمع الوصية: «تَلَذَّذْ بِالرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ. سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي» (مزمور 37: 4 و5).




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx