اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
السة 4913 أغسطس 2021 - 7 مسرى 1737 ش     العدد كـــ PDFالعدد 31-32

اخر عدد

العذراء والآلام

قداسة البابا تواضروس الثانى

13 أغسطس 2021 - 7 مسرى 1737 ش

يقول القديس بولس الرسول في رسالة فيلبي (1: 29): «لأنه قد وُهِب لكم لأجل المسيح، لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضًا أن تتألموا لأجله»، وهو بذلك يقرّر أحد المبادئ الأساسية التي تحكم وجودنا في هذه الحياة: الإيمان والآلام كوجهي عطية واحدة موهوبة لنا من نعمة المسيح يسوع. وهذه العطية ذات الوجهين أحد قوانين الحياة المسيحية التي شاهدناها ونشاهدها في حياة القديسين والشهداء والنساك والأبرار والصديقين وكل السائرين في الطريق الروحي نحو السماء. بل أتجاسر وأقول إن هذه العطية هي علامة الصحة والسلامة في مسيرتنا الروحية نحو الملكوت، بمعنى أن الآلام صارت رفيق الإيمان، وأن الإيمان هو القاعدة التي تحمل وتحتمل الآلام على اختلاف أنواعها.

لقد كان السيد المسيح رجل أوجاع، وفيه تتجسد صورة العبد المتألم، ونراه يبكي في معجزة إقامة لعازر من الموت (يو11: 35). لقد كان مُثقَّلًا بأمراضنا (إشعياء 53: 4)، ولكنه يتمم النبوات ويعطي تلاميذه قوة الشفاء باسمه (مرقس 16: 18)، وشفاء مقعد باب الجميل يشهد على قوة الكنيسة الناشئة (أعمال 3: 1-10).

بصورة أخرى هو لا يمحو الألم بل يقدم التعزية للحزين (متى 5:5). لا يمحو الدموع بل يجفّفها كما في معجزة إقامة ابن أرملة نايين، لمّا رآها الرب تحنن عليها وقال لها «لا تبكي» (لو 7: 13). وكذلك في معجزة إقامة ابنة يايرس (لو 8: 52). حتى أنه يمكننا أن نقول إن دموع الألم ستكون "سعادة" لأنه (أي الألم) يهيّئ لاستقبال الملكوت، لأنه مكتوب أنه «يمسح الدموع من كل الوجوه» (رؤيا 7: 17، 21: 4؛ إشعياء 25: 8)، ومكتوب «لأنه في ما هو قد تألم مُجرَّبًا يقدر أن يُعين المُجرَّبين» (عبرانيين 2: 18).

وكل ما سبق ينطبق على حياة أمنا العذراء مريم فخر جنسنا، فقد كانت الآلام رفيقة إيمانها ووداعتها، كما قال لها القديس سمعان الشيخ -الرجل البار التقي- عندما قدمت مع يوسف النجار المولود الإلهي ليصنعا له حسب عادة الناموس: «... وأنتِ أيضًا يجوز في نفسك سيف لتُعلَن أفكار من قلوب كثيرة» (لوقا 2: 25-35). حقًا لم تخلُ حياتها من الضيقات والآلام والمتاعب العديدة، وكما نصلي بلسانها في صلوات الساعة السادسة في الأجبية (كتاب صلوات الساعات): "أمّا العالم فيفرح لقبوله الخلاص، وأما أحشائي فتلتهب عند نظري إلى صلبوتك الذي أنت صابر عليه يا ابني وإلهي". وهكذا يصير الألم عنصر نضج في حياة الإنسان.

كانت القديسة مريم ابنة وحيدة لأم عاقر هي حنّة، وقدموها للهيكل كأنها طفلة في ملجأ حيث تربّت على صدقات الناس، وكان أهلها يزورونها كل عيد فصح. وعندما بلغت 12 سنة خُطبت لرجل فقير نجار متقدم عنها في العمر كثيرًا من أجل العناية بها. وهذا الرجل بلا أي مركز أو مكانة في العالم وهي بالطبع لم تختره..

ثم كانت الآلام الكبرى في حياتها عندما وُجدت حُبلى وهي عذراء، وهو ألم كافٍ لنوال اللعنة والشك وربما الطرد والقتل، لولا ظهور الملاك ليوسف النجار وطمأنته، وأيضًا لولا اتضاع وحياة التسليم الكلي لمشيئة الله.

ومع حملها وبشارة الملاك وسفرها مع خطيبها إلى بيت لحم للاكتتاب (الإحصاء السكاني)، ثم لا تجد مكانًا للولادة في القرية إلا في مذود حيوانات بالطبع غير ملائم لسكنى البشر، وقد كان هذا كافيًا للشك، وهل ابن الله لا يجد له مكانًا بين الناس؟!. ووسط هذه الأجواء وبرودة الطقس وأصوات الحيوانات وسنها الصغير، تلد العذراء متحملة كل الآلام التي تصاحب تجربة الولادة، وظهور الملائكة ومقابلة الرعاة ثم المجوس حكماء المشرق.. ووسط قسوة الشتاء تتحمل الهروب إلى مصر حيث سلكت العائلة المقدسة طريق اللصوص لتبتعد عن الطريق الرسمي المليء بجنود الملك، وتظل في مصر من مدينة إلى أخرى في ترحال متواصل لمدة ثلاث سنوات وأكثر، ثم تعود إلى أورشليم، وخلال سنوات يفارقها المسيح صبيًا، وكانت تتعذب هي ويوسف النجار حارسها (لوقا 2: 48)... وتظل الآلام مصاحبة لوالدة الإله حتى الصليب، حيث يوكل المسيح المصلوب رعايتها إلى تلميذه المحبوب يوحنا الحبيب ويقول له: «هوذا أمك»، ويقول لها: «هوذا ابنك» (يوحنا 18: 26 و27).

وهكذا عاشت أمنا العذراء حياتها بين اليتم والغربة والفقر والوحدة، في إيمان وآلام باتضاع ورضى، لأنها بالتأكيد سمعت عن أبطال الإيمان والآلام في الكتاب المقدس مثلما اختبر يوسف الصديق حياته حتى في السجن، ولكن هذه الآلام التي اجتازها أوصلته إلى عرش مصر. وكذلك أيوب الصديق قادته الآلام إلى التوبة واتضاع الذات وانسحاقها، وداود النبي أيضًا اجتاز آلامًا كثيرة حتى أنه صرخ كثيرًا وقال «إلى متى يا رب تنساني... اسندني يا رب فأخلص.... أرني بهجة خلاصك».

إن الآلام سواء جسدية أو نفسية، سواء مادية أو معنوية، سواء ظاهرة أم خفية، سواء مكشوفة أو مستورة، وغير ذلك.. لا يمكن أن يقبلها الإنسان إلا بالإيمان القوي والرجاء الحي والمحبة الدائمة، واثقًا أنه يقدر دائمًا أن يعين المُجرَّبين.




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx