اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
السة 4903 ديسمبر 2021 - 24 هاتور 1738 ش     العدد كـــ PDFالعدد 47-48

اخر عدد

الأدب الروحي
العليقة المشتعلة (*) (1)

القمص جرجس توفيق - دمنهور

03 ديسمبر 2021 - 24 هاتور 1738 ش

+ في صباح يوم خريفي بكّر موسى إلى البرية يرعى غنم حميه يثيرون كاهن مديان.

+ وعند الظهيرة.. كانت الشمس تدور صاعدة تتوسط السماء، والضياء المبهر والسكون العميق يلفّان كل شيء في السماء، وعلى الأرض.

+ جذبته رغبة مُلحّة لا يدري كنهها، فراح يسوق غنم قطيعه الصغير إلى ما وراء البرية.

+ وبينما هو ينفخ في نايه انتابته روح الحزن! فراح يهمس مناجيًا الله قائلاً: لماذا يا رب سمحت أن أتغرّب تاركًا عبدتك يوكابد أمي العجوز، وإخوتي الأحباء هارون ومريم؟! وهٰئنذا ذا أقاسي عنت هذا الفقر العظيم..!

+ ثم يواصل مناجاته في لوع، قائلاً: ليتني أعود فأصنع شيئًا أكثر نفعًا من رعاية هذه الغنيمات القليلة..

+ خُيِّل إليه أنه يسمع همسًا رهيفًا يتردد في أذنيه قائلاً: ستعود.. ثم يضيف بعد برهة: لكن إلى حين..! تلفّت موسى حواليه منصتًا.. فلم يجبه إلا الصمت.. فاستمر في تسبيحه العميق يحدث الله لزمن، ثم أفاق من عمق هذا الدهش فوجد نفسه وغنيماته عند مشارف حوريب.. جبل الله المقدس..! صار مدهوشًا.. لكأنما ريح حملته أو اختطفه روح وأتيا به إلى هذه المشارف المقدسة.. انتابته مشاعر متباينة، وأحس أن هناك قوة جاذبة تقود خطواته في اتجاه معين..!

+ تأمل فيما حوله: كان الجمال منفردًا، وذا مذاق متميز، وسكون عميق تتخلّله تنويعات من موسيقى الطبيعة الخالدة التي أبدعها الخالق العظيم.. هناك ريح لطيفة تهب في رفق، وحفيف أوراق أشجار يحدث همسًا.. وشقشقة طيور متنوعة لها عذوبة من نوع ما.. وعطر أزهار برية يعطر الفضاء..

+ كل هذه دغدغت حواسه المرهفة.. فكان لكأنما شرب قليل خمر عتيق.. كانت الطبيعة في عينيه تكاد أن تُجن من فرط الجمال..!

+ أحس بمتعة روحية لم يألفها قبل هذه اللحظات، وأن هناك أنفاسًا عميقة تتردد، أو أن روحًا هائلة تهيمن على هذا الجبل.. خُيِّل إليه أنها تطل من علٍ عليه، وغنيماته القليلة.. فأيقن أنه ليس وحيدًا في هذا القفر المهول..

+ استغرقته مشاعر حنين وشوق، فراح يرفع ذراعيه عاليًا، يودّ أن يقفز إلى أعلى، أو أن يخرج من جسده الكثيف منطلقًا إلى هذا الفضاء الرحيب، يحتضن السماء والأرض وكل الكون..

+ راح يصرخ في ضراعة بأعلى درجات صوته، ومشاعر تتأجج، ونشيج يخرج من أعماقه الملتاعة، يقول: خذني إلى حضرتك يا الله..

+ كانت الغنيمات تنطلق تقطف عشبة من هنا، وعشبة من هناك.. ثم تنهل مياهًا عذبة من نبع قريب؛ كانت نشوانة لكأنما تلعق قطرات خمر مُسكر، ثم تتسابق وهي تطلق ثّغاءها البهيج.. كانت أصواتها في أذنيه أعذب أصوات سمعها موسى على الإطلاق..

+ وبينما هو يتأمل لمح حملاً صغيرًا -أنصع بياضًا من كل ما شاهد في حياته من الحملان البيضاء- يتجه إلى مياه النبع الفائضة، يريد أن ينهل بضع قطرات مثلجة يرطب بها جوفه، الذي كان يحترق..

+ كان يتلمّس طريقه في وداعة طاغية عشقها موسى.. لكن زحمته في خشونة فحول الخراف والجداء المندفعة إلى النبع، كادت تفتك برقّته..

+ انزعج موسى بشدَّة، وفي تلقائية مذهلة وبسرعة كلمح البصر قفز قفزة واحدة هائلة والتقط الحمل المدوس بذراعيه القويتين، رفعه إلى صدره محتضنًا إياه في حنو، لكأنما يحتضن طفله الوليد، مردّدًا راحتيه على جسده الرقيق في رفق، مُهدِّئًا من رَوَعِهِ ونزعاجه وهو يقول: لا تخف يا حملي الحبيب..

+ والحمل يتشبث بصدره لكأنما هو طفل يحتمي بحضن أمه.. ينهل حبًا ويرتوي حنانًا..

+ أسرع موسى به إلى نبع المياه هامسًا في أذنيه، قائلاً في رقة أحسها الصغير: إرتوِ يا صغيري ما شئت من عذب المياه.. وفي نفس هذه اللحظة تمامًا، وبينما هو يتواصل هيامًا مع حمله الوديع، وكانت الشمس تميل على مهل نحو الغروب، وريح مغربية تهب في رفق.. بوغت موسى برؤيا.. كاد يُجن من فرط الانفعال.. منظر لم يره قبلاً.. ولا سمع به.. حتى في عجائب القدماء..!

+ العليقة الخضراء شبَّت فيها نيران مهولة.. وألسنة اللهب ترتفع من وسطها.. عاليًا.. عاليًا.. حتى إلى عنان السماء.. تكاد تشعل السحاب نارًا.. والعليقة لا تحترق..! أغصانها خضراء.. وأزهارها نيرة فيحاء..

+ ظل يتأمل مبهوتًا لا يتحرك.. كان يحملق، وكفى.. لكأنما شُلَّت أعضاؤه.. وتوقف لسانه.. وانطبقت شفتاه.. ما عاد قادرًا على النطق.. صار يلهث لهاثًا عميقًا متواليًا..

+ ومر زمن.. هل لحظة، أم هو العمر كله..؟ وهل في الجسد هو أم خارج الجسد؟ إنه لا يعلم! فقط هو يتأمل..!

+ وأخيرًا ثاب إلى رشده ناظرًا إلى العليقة.. لا انطفأت النار، ولا العليقة الخضراء احترقت..!

+ صرخ من عمق كيانه، قائلاً: أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم(1).. العليقة تتوقد بالنار(2)..

+ هم أن ينطلق بأكثر ما يمكنه من قوة ليتأمل هذه العليقة العجيبة التي تنبض بالحياة! فما تحرك.. لكأنما هو مقيد الساقين.. لا يستطيع الانطلاق إلى غايته..! تيقن أنه واقع تحت تأثير قوة روحية عظيمة..

+ وفي غضون لحظات تردد صوت عميق ملأ البرية بأسرها، حتى أن الأغنام اشرأبت بآذانها تتنصت..

+ أما موسى.. فقد أخذ يرهف السمع مأخوذًا.. يحاول تفسير ما يسمع من الكلمات.. كان الصوت ينادي: موسى.. موسى(4).. لم يَحِرْ موسى جوابًا.. لم تكن لديه القدرة على النطق.

+ لكنه، أخيرًا أخذ يردد الكلمات حرفًا، حرفًا قائلاً، وهو يرتجف: ها أنا ذا(5).. فقال الصوت محذِّرًا: لا تقترب إلى ههنا(6)..

+ تلفَّت موسى حواليه لعله يعرف مصدر الصوت.. فإذا به يأتيه من وسط العليقة المشتعلة، آمرًا إيَّاه في حزم، قائلاً: اخلع حذائك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة(7)..

+ انطرح موسى على وجهه إلى الأرض خالعًا نعليه وقاذفًا بهما بكل قوته بعيدًا.. وأخذ يتقدم زاحفًا في بُطء، وهو يرتجف، غارقًا في عرقه، وقد أخذته رعدة عظيمة..

+ وما كاد يرفع عينيه فاحصًا، ومدققًا حتى استطرد الصوت، يقول: أنا إله أبيك.. إله إبراهيم.. وإله اسحق.. وإله يعقوب(8)..

+ غطى موسى وجهه من نيران الله الآكلة حتى لا يفنى فلا يوجد بعد.. وردد في همس: أنا تراب حقير.. أنا ذرة تراب متناهية الصغر.. أنا لا شيء.. وأضاف يهمس إلى نفسه: فكيف أقف أمام الله..؟!

* وقد أخذتني نشوة أحداث الميلاد العظيمة، آثرت ان أتأمل تلك العليقة المشتعلة التي ألهبت عقول وقلوب وأرواح كل من تأمل نيرانها المقدسة، وعذرائها البتول النيرّة الناضرة.. فصرخت من كل قلبي أقول: "أميل لأنظر هذا المنظر العظيم".

(1 و2 و3) (خر 3: 2)

(4 و5) (خر 3: 4)

(6 و7) (خر 3: 5)

(8) (خر 3: 6)




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx