في مزمور ٣٧ نتوقف عند الآية ٣٤، «انتَظِرِ الرَّبَّ واحفَظْ طريقَهُ، فيَرفَعَكَ لتَرِثَ الأرضَ. إلَى انقِراضِ الأشرارِ تنظُرُ». الآية تقدم لنا درسًا من دروس الحكمة، نسميه: انتظر الرب.
ماذا يعني الانتظار؟
- الله ضابط الكل، يصنع الكل حسنًا في وقته، ودائمًا نخاطبه في كل صلواتنا بهذا التعبير. وانتظار الإنسان الحكيم يعني أن الإنسان يعرف بداخله أن الله يرتب كل شيء، يصنع المناسب للإنسان وللخليقة كلها.
-الانتظار يعني أن الإنسان لديه إيمان قوي، ورجاء وصبر. والصبر يوجد في تكويننا المصري، فالفلاح الذي يضع البذرة ينتظر عوامل الهواء والمياه والأرض والشمس، لكي تبدأ البذور في الإنبات، فالزراعة بصفة عامة تعلم الإنسان الصبر من بداية الزرع إلى الحصاد.
أيضًا في القداس نصلي: "تبشرون بموتي وتعترفون بقيامتي وتذكرونني إلى أن أجيء"، فهذه تعتبر حالة انتظار. كذلك في قانون الإيمان نقول: "وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي". إذًا حياة الإنسان كلها تدور في هذه الصفة، والإنسان الواعي لا يتململ في انتظاره.
ماذا أنتظر؟!
الإنسان الحكيم هو من ينتظر الملكوت. هو من يعيش على الأرض، لكن في كل يوم في حياته تكون عيناه على الملكوت. أمامه هدف يراه. إنسان يعرف طريقه نحو السماء، وهذا هو الجهاد الروحي الذي تعلمه لنا الكنيسة، بسعي وتعب نحو الملكوت.
الملكوت شيء غالي، يجب أن ندفع فيه ثمنًا غاليًا، وهو مفردات الحياة الروحية (صلواتك، أصوامك، قراءاتك لسير القديسين، التداريب الروحية، ضبط النفس) كل هذه خطوات تبيّن الإنسان الحيكم الذي يسعى باجتهاد نحو الملكوت.
المُنتظِر شخص لديه أمل، ويتطلّع لهدفه باشتياق، وهذا الاشتياق يعطيه طاقة عمل في مسيرة حياته يومًا وراء الآخر. فهو شخص مثابر، "نفسه طويل".
يمكن أن نسمّي العمر (أيام الانتظار)، فطوباك لو كانت عيناك على الملكوت لا على الأرض، قدماك على الأرض تعمل وتمارس مسئولياتك على أكمل وجه، لكن هدفك في السماء، تتطلّع إلى نصيبك هناك.
«انتَظِرِ الرَّبَّ واحفَظْ طريقَهُ، فيَرفَعَكَ لتَرِثَ الأرضَ. إلَى انقِراضِ الأشرارِ تنظُرُ».. إذًا هي أيام انتظار، يرفعك الله لترث الأرض بالفضيلة والتقوى التي تعيش بها. وترى نهاية الشر والناس البعيدين عن الله.
كيف نعرف الملكوت؟
طريق الإنجيل هو دليلك للملكوت، وكنيستك هي التي تساعدك على الوصول إلى الملكوت، والتوبة هي التي تنقّي طريقك لكي تصل للملكوت، والخدمة بكل أشكالها في محبتك للآخرين تصل بك إلى الملكوت، لكن إن أهملت كل ذلك تجد الملكوت باهتًا في عينيك وغير حاضر، حينما تنشغل فقط بالأرض والكدّ فيها ولا تفكر في السماء. يقول الكتاب «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله»، الكلمة المقدسة الموجودة في الكتاب المقدس هي التي تساعدك وترشدك وتجعل طريقك مليئًا بالحكمة.
ما هي صفات الإنسان المنتظر؟
هناك ست صفات يصلّيها الكاهن في قسمة الصوم الكبير، فيقول: "لكي بقلبٍ طاهرٍ، ونفس مستنيرة، ووجه غير مخزي، وإيمان بلا رياء، ومحبة كاملة، ورجاء ثابت".. هذه العلامات هي مقياس درجة الانتظار والاشتياق نحو السماء.
نقف عند كل نقطة...
(1) قلب طاهر: أكبر مثال هو داود النبي الذي أخذنا عنه المزامير في صلواتنا، والذي قال عنه الكتاب إن قلبه حسب قلب الله، وسيرته وأحداث حياته وحتى خطيته التي سقط فيها ثم تاب، كل هذه تُعد مُعلّمًا لحياة الإنسان الذي يريد أن يكون لديه قلب طاهر. لقد امتلك داود النبي القلب الطاهر حتى وإن سقط في الخطية، لكنه تاب ورجع إلى نقاوته. نضع داود أمامنا كمثال قوي للقلب الطاهر. لذا أول مؤهل يساعدك في سنوات وأيام الانتظار، هو القلب الطاهر.
(2) نفس مستنيرة: نفس مستنيرة وليست مظلمة، ليست نفسًا تعشّش الخطية فيها. والنفس هنا تشمل كل الإنسان؛ العقل والفكر والمشاعر والوجدان. النفس المستنيرة ترتبط بالحكمة. يمكن أن نراها في شخصية نقوديموس، فقد كان شخصية مُعتبَرة في المجتمع اليهودي، وله مكانته، كان يشتهر بأنه ذهب إلى المسيح ليلًا، أراد أن يستزيد علمًا ومعرفةً، ويبحث كيف تكون حياته الداخلية في استنارة. ومع أنه بدأ في الخفاء، لكنه ظهر علانية وقت دفن المسيح، إذ كان قد رأى بعين جديدة مستنيرة، وامتلأ بالحكمة.
النفس المستنيرة تبحث عن النور دائمًا، من خلال الكلمة المقدسة، المرشد الروحي، القانون الروحي، كل ذلك يساهم في أن تكون نفسك مستنيرة. لذلك نقرأ السنكسار كل يوم في الكنيسة، لأننا من خلال سير القديسين نشعر بالاستنارة، إذ امتلأ هؤلاء بالنور، وعاشوا في النور.
من الممارسات الكنيسة القوية التي نعيش فيها الاستنارة، سر المعمودية، ونرمز لهذه الاستنارة من خلال بالملابس البيضاء. وهذا النور نحصّنه بدم المسح (الزنار) الذي يلبسه الطفل المُعَمّد، ولتبدأ حياته بالاستنارة في قلبه. نحن نضعه على بداية الطريق بالولادة السماوية من الماء والروح، يكون في البداية في معية الإشبين؛ الأب والأم، وبعدها عندما يتقدم في العمر يستكمل المسير في طريق الاستنارة.
(3) وجه غير مخزي: وهو أمر صعب للغاية، مثل المتهم الذي يضع وجهه في الأرض، وكما ذكر في الكتاب المقدس أن الأشرار سيقولون في الأيام الأخيرة: أيتها الجبال غطينا من وجه الجالس على العرش (رؤ6: 16).
يذكر التاريخ الكنسي أن مرقس الوالي، والد القديسة دميانة، كان يحتل منصبًا مدنيًا، بينما عاشت ابنته كراهبة هي وصاحباتها الأربعون في جهاد روحي. وكان مرقس قد سقط تحت باب الإغراءات وجحد إيمانه، فلما عرفت دميانة ردت على والدها قائلة: "كنت أفضل أن يؤتى إليّ بخبر انتقالك عن أن أسمع أنك تركت المسيح". وكانت كلمات ابنته مؤثرة فيه، فرفعت وجهه من وجه مخزي، لوجه غير مخزي، فتاب وأعلن إيمانه ونال الاستشهاد.
الإنسان الحكيم يحافظ دائمًا على أن يكون وجهه غير مخزي، والشيء الوحيد الذي يجعل وجه الإنسان مخزيًا هو الخطية.
(4) إيمان بلا رياء: إيمان حقيقي، واثق، نشيط وحاسم. شاول الطرسوسي كان يتباهى بأنه تعلم عند قدمي غمالائيل، واكتشف عندما ظهر له المسيح في طريق دمشق أن كل ما فات ليس له معنى! وقال: ماذا تريد يا رب أن أفعل؟ فيصير بإيمانه العظيم بولس الرسول، ونسميه أحد أساتذة اللاهوت، إذ كان له إيمان قوي بلا رياء.
(5) محبة كاملة: وهي محبة حقيقية من القلب، فكما أحبني المسيح يريد مني أن أحب الآخر، كما نصلي: "واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا"، فهل تغفر للآخرين كل يوم؟ أم أن قلبك مغلق، قاسٍ، يعيش في الخصام والكراهية؟ الإنسان الحكيم يعيش المحبة الكاملة لكل أحد، مثل القديس يوحنا الحبيب عندما يقول عنه الكتاب «التلميذ الذي كان يسوع يحبه»، هكذا نطلق عليه أيضًا "يوحنا الحبيب"، فكل كتاباته تتكلم عن الحب. وكأن الحياة في أيام انتظارنا هي صراع لتحصيل المحبة. الإنسان الحكيم يملك المحبة الكاملة ويحاول ان يتجمل بالمحبة.
(6) رجاء ثابت: الإنسان الحكيم ينتظر برجاء وأمل، مثل حنة أم صموئيل، الإنسانة العاقر التي صلّت بدموع كثيرة من أجل ابنها، وكان لديها رجاء. أيضًا القديسة مونيكا أم القديس أغسطينوس التي كانت تصلي بدموع كثيرة من أجل ابنها. الإنسان الحكيم دائمًا يترجى حياته ويملك الرجاء الثابت والثقة الداخلية أن الله يدبر كل شيء.
هذه جوانب تشرح الإنسان الحكيم في حياته...