اسم المستخدم

كلمة المرور

    
 
بحث
اللغه
select
السة 4918 يونيو 2021 - 11 بوؤونة 1737 ش     العدد كـــ PDFالعدد 23-24

اخر عدد

قراءة في «سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسَة».. طَوْر التَّكوين (6) 
«جُهود المُترجِمين»

شريف رمزي - باحث في التاريخ الكنسيّ

18 يونيو 2021 - 11 بوؤونة 1737 ش

في مقالاتٍ سابقة تحدَّثنا باستفاضةٍ عن الكُتَّابِ الَّذين أسهَموا في تأليفِ «سِيَر البِيْعَة المُقَدَّسَة»، في إطارِ دراسةٍ مُتعمِّقةٍ في أقدَمِ مخطوطاته. وتوَقَّف بنا الحديث عِند شخصيَّة مَوهوب بن مَنصور بن مُفرِّج، الشَّمَّاس الإسكندرانيَّ الَّذي تصدَّى لجمعِ سِيَرِ الآباء البطاركة وأشرَف على نَقلِها من اللُّغةِ القبطيَّة إلى اللُّغةِ العربيَّة، مُستفيدًا من جُهودِ المُخلصين الَّذين عاونوه في تلك المهمَّة الجليلة.

أمَّا موهوب نفسه فقد اضطلع بمهمَّةِ النَّسخِ ومن ثَمَّ تحرير النَّصّ وصياغته، وفي هذا السِّياق أمكَن لموهوب إضافة الكثير من الأخبارِ والتَّفاصيل الَّتي استقاها شَفاهةً من بعضِ أهل الثِّقة أو من مصادرٍ تاريخيَّةٍ مكتوبة، منوِّهًا عن مَرجعيَّتهِ في الحالتَينِ: [ما كَتَبه ناسِخ هذه السِّيرَة قال... وَجَد ناسِخ هذه السِّيرة في دَيرِ أبو مَقار بوادي هبيب أنَّ... قال ناسِخ هذه السِّيرة: إنَّني وَجَدت بخزانةِ كُتُب كَنيسة أبو مَقار... ناسِخ هذه السِّيرة وناقِلها البائِس المُذنِب الخاطئ المُقِرّ بآثامِهِ وخَطاياه، يَذكُر أنَّ جِدّه سُرور بن جِرجة أرشيدياقُن الإسكندريَّة حَكى له... وناسِخ هذه السِّيرة يعرف عمَّا نُقِل إلَيه مِن الثِّقات المؤمِنين عَن الأبِّ أنبا زَخٰريَّاس عجائِب كَثيرة وقد شَرَح بَعضها، فمِنها... أنا البائِس الخاطِئ مَوهوب ناسِخ هذه السِّيرة صادِق عَن الأبِّ الأُسقُف أنبا أفراهام أُسقُف دمياط المُقَدِّم ذِكره أنَّه شاهَد... وشَهِد سَعيد ابن بطريق في كِتابهِ... وفي نُسخةِ كِتاب تاريخ سعيد ابن بطريق المُتَطَبِّب يَذكُر...].

وإشارة موهوب إلى كتابِ المؤرِّخ الملكانيّ سعيد بن بطريق (†940م)، المعروف بتاريخ أوتيخا، كمصدرٍ له في سياقِ حديثه عن الخليفةِ الفاطميّ الحاكم بأمرِ الله (996-1021م)، تُعَدّ إشارة ضِمنيَّة إلى كتابِ المؤرِّخ يحيى بن سعيد الأنطاكيّ (†1067م)، والمعروف أيضًا باسم «صِلة تاريخ أوتيخا»، وهي الإشارة الَّتي أساء بعض الكُتَّاب المُحدثين فهمها فنسَبوا وقائِعًا ترتبِط بعهدِ الحاكم بأمرِ الله إلى ابن بطريق الَّذي توفِّي قبل ولادة الحاكم بنحوِ نِصف قرنٍ من الزَّمان!

وتجدُر الإشارة أيضًا إلى الجهودِ السَّابِقة والدَّورِ الرَّائِد الَّذي لعبه موهوب كناسِخٍ ومُهتَمّ بنقلِ النُّصوص القَديمة -المكتوبة باليونانيَّة والقبطيَّة- إلى اللُّغةِ العربيَّة، خدمة لبني جِلدتهِ من الأقباطِ الَّذين بدأت معرفتهم باللُّغةِ القبطيَّة في التَّراجُعِ والانحسار، وما تكلَّفه في سبيلِ تلك المهمَّة المُقدَّسة من جَهدٍ ووَقتٍ ومال: [ما كَتَبه ناسِخ هذه السِّيرَة قال : إنَّ واضِع هذه السِّيرَة اختَصَر في تَقَلُّب القِدِّيس الرَّسوليّ الأبّ الرَّاعي الصَّالح أثناسيوس... وسيرته وتَقَلُّبه فهي نَقل مِن القبطيِّ إلى العربيِّ، وهي سيرة كَبيرة حَسَنة، نَقَلها الأبروطس (الكاهن المُتَقَدِّم) بالإسكندريَّة، وهو سَهلون بن فَرَح، في سَنةِ ثَمانِ مائة واثنين للشُّهَداءِ، وهي عِند ناسِخ هذه السِّيرة]. والتَّاريخ المُشار إليه هُنا يوافق سنة 1086م، قبل نحو عامين من شُروعِ موهوب في جمعِ وترجمة «سِيَر البِيْعَة».

وأيضًا: [قال ناسِخ هذه السِّيرة: إنَّني وَجَدت بخزانةِ كُتُب كَنيسة أبو مَقار مِمَّا نَقَلت تَفسيره مِن القِسِّ بسبب (شيث) الإبصٰلمُداس (المُرَتِّل)، في سَنةِ ثَمانِ مائة وثَلاثة للشُّهَداءِ، أحَد عَشر رِسالة بين بُطرُس القِدِّيس بَطريَرك الإسكندريَّة وبين أكاكيوس بَطريَرك القُسطَنطينيَّة]. والتَّاريخ المُشار إليه هُنا يوافِق سنة 1087م. وذلك يعني بوضوحٍ أنَّ اهتمام موهوب بنسخِ وترجمة النُّصوص القديمة قد سبَق عمله في جمعِ وتحرير «سِيَر البِيْعَة»، ويُظهِر أيضًا -إلى جانبِ شغفه بسيَرِ الآباء البطاركة والتَّأريخ لهم- اهتمامه بمُختَلَفِ الكُتُب البِيْعيَّة بصَرفِ النَّظر عن ماهيتِها.

أمَّا فيما يخُصّ «سِيَر البِيْعَة»، فالظَّاهر لنا أنَّه بخلافِ السِّيَرِ الَّتي وجِدَت مكتوبة باللُّغةِ القبطيَّة، والَّتي شَكَّلَت السَّواد الأعظَم من المشروعِ، كانت هُنالك مجموعة سِيَر الآباء البطاركة الأوائلِ الَّتي تعود أصولها -على الأرجَحِ- إلى اللُّغةِ اليونانيَّة، إضافةً إلى النَّصِّ الخاصّ بتَقدِمة السَّيِّد المسيح كاهنًا في هيكلِ أورشليم، والرَّابط الوَحيد بين ذلك النَّصّ وسِيَر الآباء البطاركة هو مكان نِساخته (دَيرِ نهيا)، ويبدو لنا من خلالِ ما يَتضَمَّنه النَّصّ مِن تفاصيلٍ خَياليَّة، لا تتماشى مع شهادة الإنجيل المُقدَّس وتعاليم الآباء الرُّسُل، أنَّه لا يتعدَّى كونه نَصًّا مَنحولاً، وتفاصيله لا تَمتّ للواقعِ أو التَّاريخ بصِلةٍ.

والأمر الأكيد أنَّ عمليَّة نقل السِّيَرِ إلى اللُّغةِ العربيَّة لم تكُن أبدًا مهمَّة سهلة، بل كان يلزمها درجة عالية من الإجادةِ والاحتراف، فضلاً عمَّا تكبَّده فريق العمل من مشقَّةِ الانتقال بين الأديرة والبحث في خَزائنِ الكُتُب القديمة، وما تحمَّله موهوب من كُلفةِ باهظةٍ لتوفيرِ الأدوات اللاَّزمة من أوراقٍ وأحبار وخِلافه. والأمر الأكيد أيضًا أنَّ موهوب قد أحسَن اختيار مُعاونيه: [فاستَعَنت بمَن أعلَم استِحقاقه مِن الإخوةِ المَسيحيِّين، وسألتَهم مُساعَدَتي على نَقلِ ما وَجَدناه مِنها بالقَلَمِ القِبطيّ واليونانيّ].

أمَّا أبرَز المُترجِمين الَّذين عاونوا موهوب في عمليَّةِ نقل السِّيَر إلى اللُّغةِ العربيَّة، فهُم:

1) الشَّمَّاس أبو حبيب ميخائيل بن بٰدير الدَّمنهوريّ:

أبرَز مُعاوني موهوب وذِراعه الأيمَن، اشترك معه في جُهودِ البحثِ عن سِيَرِ الآباء البطاركة الَّتي كانت مُتَفرِّقة في الأديرةِ القديمة، وهو الَّذي تصدَّى لترجمةِ القِسم الأكبر من تِلك السِّيَر بحُكمِ إجادته للُّغةِ القبطيَّة. وقد رَتَّبَت العناية الإلهيَّة أن يلتقي موهوب بميخائيل في دَيرِ القدِّيس أنبا مقار، وكان ذلك في حُضور البابا كيرلُّس الثَّاني/67 (1078-1092م)، وأغلَب الظَّنّ أنَّ سَعي موهوب ورفيقه قد حظيَ بموافقةِ البابا ومُباركته: [فاستَعَنتُ باللهِ تَعالى ذِكره وسِرتُ إلى دَيرِ القِدِّيس أبو مَقار بوادي هبيب المُقَدَّس، فوَجَدتُ الشَّمَّاس أبو حبيب الدَّمنهوريّ، وكان هُناك الأبّ القِدِّيس الطَّاهِر أنبا كيرلُّس ومعه ثَلاثة أساقِفة... وذلك في بَرمهات سَنة ثَمانِ مائة وأربَعة للشُّهَداءِ (مارس 1088م)، وتحدَّثت مع الشَّمَّاس أبو حبيب الدَّمنهوريّ المُقَدَّم ذِكره فيما اشتَهَيته مِن جَمعِ سِيَر البَطارِكة، فاتَّفَق رأيُّنا على البَحثِ عَليها وطَلَبها حَيثُما كانَت].

وقد التبَس الأمر على بعضِ الدَّارسين فخَلَطوا في كتاباتهِم بين شخصيَّتي الَّشمَّاس ميخائيل بن بٰدير الدَّمنهوريّ، والشَّمَّاس ميخائيل الدِّمراوي (نسبة إلى دِمرو من أعمالِ الغربيَّة)، والأخير هو الَّذي ارتقى إلى كُرسيِّ الأُسقُفيَّة في حبريَّة البابا خرستوذولُس/66 (1047-1077م)، وهو الَّذي صَّنَّف -باللُّغةِ القبطيَّة- سِيَر عشر بطاركة، من البابا ميخائيل الثَّالث/56 (880-907م) إلى البابا سانوتيوس (شنوده) الثَّاني/65 (1032-1046م). ويزول أيّ أثرٍ لذلك الالتباس بالتَّدقيقِ في المُقدِّمةِ الَّتي صَدَّر بها موهوب ذلك الجُزء من «سِيَر البِيْعَة»: [السِّيرَة الثَّالِثة والعِشرين للبِيْعَة المُقَدَّسَة مِمَّا شَرَحه أنبا خائيل (ميخائيل) أُسقُف تِنِّيس، ونَقَلناه مِن خَطِّهِ في دَيرِ أبو مَقار، في أوَّلِ بَرمودة سَنة ثَمانِ مائة وأربَعة للشُّهَداءِ ، وفَسَّره الشَّمَّاس أبو حَبيب ميخائيل بن بٰدير الدَّمنهوريّ مِن القِبطيّ، مِن نُسخَةٍ بخَطِّ أنبا خائيل المَذكور].

2) القِسّ يوأنِّس رئيس دَير نٰهيا (وشُهرته القِسّ زكير):

كان دَير السَّيِّدة العذراء بنهيا (من أعمالِ الجيزة) -كغيره من الأديرةِ في ذلك الوقت- مركزًا لحِفظِ ونسخ المخطوطات. وكان القِسّ يوأنِّس (المعروف باسم زكير) هو المُدَبِّر لهذا الدَّير، وهو الَّذي استضاف موهوب ورفيقه وفتَحِ أمامهُما خَزائن مخطوطات الدَّير، فتحصَّلا مِنها على القِسمِ الأكبر من سيَرِ الآباء البطاركة: [فوَجَدنا في دَيرِ السَّيِّدة نٰهيا سِيرَة اثنَين وأربَعين بَطرَك مِن ماري مَرقُس الإنجيليّ إلى سيمون... وفي دَيرِ نٰهيا أيضًا سِيَر تِسعة بَطارِكة مِن أنبا مينا (البطريرك 47) إلى سانوتيوس (البطريرك 55)].

انضَمّ القِسّ يوأنِّس إلى الشَّمَّاسينِ موهوب بن منصور وميخائيل بن بٰدير، فشكَّلوا معًا فريق عَمَلٍ مُتكامِل، وقد أسَهَم بجَهدٍ ملحوظ في نَقلِ السِّيَر إلى اللُّغةِ العربيَّة: [تَمَّت السِّيرَة السَّادِسَة عَشر، وبتَمامِها انتَهَت سِيرَة الآباء رَزَقنا الله بَرَكَتهم إلى سِيرةِ أنبا سيمون، وهو الثَّانى وأربَعون بَطرَكًا. سِوى ما نَقَلناه بدَيرِ أبو مَقار... مِن قِبَلِ تَفسِّرة الشَّمَّاس الدَّيِّن القِدِّيس ميخائيل ابن بٰدير الدَّمَنهوريّ، والقِسّ زكير].

وكما كان دَير القدِّيس أنبا مقار ببرِّيَّة شيهيت، نُقطة الانطلاق بالنِّسبةِ لموهوب، كان الدَّير نفسه نُقطة الانتهاء من المشروع في صورتهِ الأوَّليَّة: [تفَضَّل الله بوجـودِنا السِّيَر في دَيرِ القِدِّيس أبو مَقار، وبالأخِ تاودرُس الأمين ابن يوٰنِّس، في يَومِ الأحَدِ سادِس بَؤونَة سَنة أربَع مائة وسِتَّة وسَبعين للشُّهداء الأبرار (كذا، وصحَّتها: 476 الخراجيَّة / 1088م). وقابَلنا بَعضها لبَعضٍ فوجدناها مُوافِقة لِما نَسَخناه، والمِنَّة للهِ المُهدي].

والأخَ تادرُس (تواضروس) المُشار إليه هُنا هو -على ما يبدو- أحد رُهبان دَير السَّيِّدة بنهيا والابن الرُّوحيّ للقِسّ يوأنِّس رئيس الدَّير، وقد رافق موهوب في زيارتهِ إلى دَيرِ أنبا مقار ببرِّيَّةِ شيهيت، واشترك معه في البحثِ عن سِيَرِ البطاركة في خزانةِ الكُتُب بالدَّيرِ ومُقابلتها على ما جرى نسخه في دَيرِ نهيا، وتلك مهمَّة شاقَّة، أقلّ ما فيها الإلمام باللُّغةِ القبطيَّة الَّتي كانت تِلك السِّيَرمكتوبة بها.

ويُحسَب للشَّمَّاسِ موهوب بن منصور -كناسِخٍ ومؤرِّخ- اهتمامه الواضِح برَدِّ الفَضل إلى أصحابهِ، وإشاراته المُتكرِّرة إلى جُهودِ مُعاونيه، لا سيَّما المُترجمين. كما يُحسَب لأفاضِلِ البِيْعة في ذلك الزَّمان -من كهنةٍ ورُهبان وعَلمانيِّين- حِرصهم على التَّزوِّدِ بالعِلمِ وإتقان اللُّغاتِ المُختلفة، ما أسهَم في حِفظِ تُراث البِيْعة من الضَّياعِ.




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق
موضوع التعليق

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx