اسم المستخدم

 

كلمة المرور

 

    
 
بحث
اللغه
select
السة 4924 سبتمبر 2021 - 14 توت 1738 ش     العدد كـــ PDFالعدد 37-38

اخر عدد

كتَب بيَدِه الأمر بهَدمِ كنيسة القيامة، ثُمَّ مات بحَسرتهِ!


شريف رمزي - باحث في التاريخ الكنسيّ

24 سبتمبر 2021 - 14 توت 1738 ش

في السَّادسِ عشَر من شهرِ توت المُبارك تُعيِّد كنيستنا القبطيَّة -بحسب السِّنكساري- لتَذكارِ تكريس كنيسة القيامة في مدينة أورشليم، وهو الحدَث التَّاريخيّ الأهمّ -بعد المجمع المسكوني الأوَّل في مدينة نيقية- الَّذي ارتبَط بعهد الإمبراطور قنسطنطين الكبير «Constantinus I» (306-337م).

لقد وجَد قنسطنطين أنَّه مُحتَّمًا عليه أن يُقَدِّم خدمة لمكان قيامة مُخلِّصنا من الأموات تسترعي اهتمام الجميع واحترامهم، لذلك أصدَر أمرًا عاجلاً بإقامة بيت للصَّلاة في ذلك المكان. وكانت تعليماته لحُكَّام الأقاليم واضحة، أنْ يبذلوا كُلّ ما في وسعِهِم للإنفاق بسعةٍ، حتَّى يتمّ بناء بيت للصَّلاة بغايةِ الفخامة، يليق بعبادة الله [حياة قسطنطين، ك 3، ف 25، 26].

لقد مثَّل بناء كنيسة القيامة في أورشليم إعادة إحياءٍ للمدينة وتخومها، حتَّى أنَّ يوسابيوس القيصريّ «Eusebius of Caesarea» (313-340م)، المُلَقَّب بأبو التَّاريخ الكنسيّ، يُبالغ في وصفه للحالِ الَّذي آلت إليه، فيرى فيها ”المدينة المُقَدَّسة، أورشليم الجديدة، النَّازِلة من عِند الله“ (رؤ21: 2) [حياة قسطنطين، ك 3، ف 33].

وفي زمنٍ آخر غير زمنِ قنسطنطين -وكانت السُّلطة آنذاك بيدِ حاكمٍ مُختَلّ- لم تسلَم حتَّى كنيسة القيامة من الهَدمِ والتَّخريب الَّذي طال كنائس كثيرة في مصر وبلاد الشَّرقِ. ومثلما كان بناؤها حدَثًا جَلَلًا، كان هدمها كذلك على نفس القدرِ من الأهمِّيَّة -أو رُبَّما أكثر- بحيث لم يكُن مُمكنًا لمصادر التَّاريخِ على اختلافِ مشاربها وتوجُّهاتها أنْ تتغافَل عنه أو تتَجاوَزه.

من بين المصادرِ الهامَّة الَّتي تؤرِّخ لتلك الحِقبة المُظلمة، كتاب «سِيَر البِيْعَة المُقَدَسَة» (المعروف بتاريخ البطاركة)، والَّذي تمتازُ روايته عن هدمِ كنيسة القيامة بقرارٍ من الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله (996-1021م)، بسردِ التَّفاصيل والمَيل إلى كشفِ الكواليس، خلافًا للمصادرِ التَّاريخيَّة الأُخرى.

نقرأ في سيرة البابا زخاريَّاس/ 64 (1004-1031م): ”أمَر (الحاكم) بكَتْبِ سِجِلٍّ بهَدمِ القيامة بأورُشَليم، وكان كاتِب السِّجِلِّ نَصرانيّ نسطوريّ يُعرَف بابنِ سيرين. ولمَّا أنفَذ السِّجِلَّ الَّذي كَتَبه صار المَذكور مِثل إنسان سَكِر وصَحِي مِن سُكرِهِ، وفَكَّر في نَفسِهِ بالَّذي فَعَلَه قائِلاً: كَتَبْتُ بيَدي بهَدمِ القيامة! فلَمْ أصبِر عَلى المَوتِ قَبل أنْ يَكون هَذا ولَمْ تُقطَع يَدي اليُمنى قَبل أنْ أكتُب هَذا، ولَو إنَّني امتَنَعتُ ما تُرى كان يُفعَل بي أكثَر مِن ضَربِ العُنقِ؟ وما كُنت أُريد شَهادة خَيرًا مِن هذا. وكان يَقول هَذا وما شاكَله، ومِن شِدِّةِ حُزنِهِ اعتَلَّ ولَزِم فِراش الوَعْك، وكان يَقول: يا يَدي اليُمنى الَّتي جَسَرتي مِن فِعلِ هَذا الأمر الفَظيع أنا أفعَلُ بِكِ ما تَستَحقِّيه، لا أزال أُعَذِّبك. وكان يَرفَع يَدَه ويَضرِبُ بِها الأرضَ طول عِلَّته، حَتَّى تقَطَّعَت أصابِعه ومات“ [مخطوط باريس عربي 303، ورقة 238].

وأوَّل ما نتوَقَّف عنده هويَّة ذلك الكاتب النِّسطوريّ الَّذي يُسمِّيه مخطوط باريس «ابن سيرين»، بينما يردُ في مخطوطاتٍ أُخرى وفي الطَّبعات الَّتي أخذت عنها: «ابن شيرين»! أمَّا الأبّ شيخو فيدعوه: «ابن شاكرين» [شيخو، 1987، صـ 75].. ومن المصادر التَّاريخيَّة الأخرى نعرف أنَّه كان للحاكم كاتب يُدعي «أبو بشر بن سورين»، تولَّى ديوان الإنشاء (السِّجِلاَّت) مُنذ أواخِر عهد العزيز بالله (975-996م)، وهو الَّذي كتب السِّجلّ بوراثةِ الحاكم الخِلافة عن أبيه في الثَّالثِ من شوَّال سنة 386هـ/19 أكتوبر 996م [المقريزي، 1996، صـ5].

وينفردُ «سِيَر البِيْعَة» بذكرِ التَّفاصيل المُتعَلِّقة بموتِ «ابن سورين» حُزنًا وكمَدًا، لشُعورهِ بالنَّدَم بعد كتابته سِجِلّ هَدم كنيسة القيامة، لكنَّنا يُمكِن أنْ نستخلِص من المصادرِ التَّاريخيَّة الأُخرى ما يُعزِّز تلك الرُّواية..

فالمؤرِّخ الملكانيّ المُعاصِر يحيى بن سعيد الأنطاكيّ يذكُر أنَّ الأمر بهَدمِ كنيسة القيامة صدَر أواخر سنة 399هـ، ويُشير إلى أنَّ البدء في تنفيذِ أمر الهَدم جَرى في الخامسِ من شهرِ صفَر سنة 400هـ/27 سبتمبر 1009م [الأنطاكيّ، 1990، صـ279، 280]. ويذكُر ابن القلانسيّ تكليف الحاكم لكاتبهِ «بشر بن سور» بكتابةِ أمر هَدم كنيسة القيامة، ضِمن حوادث سنة 398هـ [ابن القلانسيّ، 1908، صـ67]. أمَّا المؤرِّخ المقريزي فيُشير إلى صدورِ أمر الحاكم إلى كاتبه «ابن سورين» بإنشاء سِجلّ هَدم القيامة أواخر سنة 398هـ، ثُمَّ يعود فيُكرِّر الإشارة نفسها ضِمن حوادث سنة 400هـ، ويذكُر وفاة ابن سورين في شهرِ صفَر من نفسِ السَّنة [المقريزي، 1996، صـ75، 81، 83].

إنَّه درسٌ قاسٍ لمَن يضعُف خَوفًا من بطش أو طمعًا في مُكافأة. والطَّريق دائمًا مفتوح، سواء أمام مَن يُريد أنْ يستَثمِر طاقته في البناءِ أو يُهدِرها في الهَدم.

المصادِر والمراجع:

مخطوط باريس عربي رقم 303، بدون تاريخ (يعود تاريخ نسخه غالبًا إلى القرن 14).

ابن القلانسيّ، ذيل تاريخ دمشق، مطبعة الآباء اليسوعيِّين، الطَّبعة الأولى، بيروت، 1908.

الأنطاكيّ، تاريخ يحيى بن سعيد الأنطاكيّ المعروف بصِلة تاريخ أوتيخا، جروس برس للنَّشر، الطَّبعة الأولى، طرابلس، لبنان، 1990.

لويس شيخو (الأبّ)، وزراء النَّصرانيَّة وكُتَّابها، حقَّقه الأبّ/ كميل حشيمة اليسوعيّ، جونيه – روما، 1987.

المقريزي، اتِّعاظ الحُنفا بأخبار الأئمة الفاطميِّين الخُلفا، ج 2، لجنة إحياء التُّراث، الطَّبعة الثَّانية، القاهرة، 1996.

يوسابيوس القيصريّ، حياة قسطنطين العظيم، تعريب/ القُمُّص مرقس داوود، مكتبة المحبَّة، القاهرة، 1975.



في السَّادسِ عشَر من شهرِ توت المُبارك تُعيِّد كنيستنا القبطيَّة -بحسب السِّنكساري- لتَذكارِ تكريس كنيسة القيامة في مدينة أورشليم، وهو الحدَث التَّاريخيّ الأهمّ -بعد المجمع المسكوني الأوَّل في مدينة نيقية- الَّذي ارتبَط بعهد الإمبراطور قنسطنطين الكبير «Constantinus I» (306-337م).

لقد وجَد قنسطنطين أنَّه مُحتَّمًا عليه أن يُقَدِّم خدمة لمكان قيامة مُخلِّصنا من الأموات تسترعي اهتمام الجميع واحترامهم، لذلك أصدَر أمرًا عاجلاً بإقامة بيت للصَّلاة في ذلك المكان. وكانت تعليماته لحُكَّام الأقاليم واضحة، أنْ يبذلوا كُلّ ما في وسعِهِم للإنفاق بسعةٍ، حتَّى يتمّ بناء بيت للصَّلاة بغايةِ الفخامة، يليق بعبادة الله [حياة قسطنطين، ك 3، ف 25، 26].

لقد مثَّل بناء كنيسة القيامة في أورشليم إعادة إحياءٍ للمدينة وتخومها، حتَّى أنَّ يوسابيوس القيصريّ «Eusebius of Caesarea» (313-340م)، المُلَقَّب بأبو التَّاريخ الكنسيّ، يُبالغ في وصفه للحالِ الَّذي آلت إليه، فيرى فيها ”المدينة المُقَدَّسة، أورشليم الجديدة، النَّازِلة من عِند الله“ (رؤ21: 2) [حياة قسطنطين، ك 3، ف 33].

وفي زمنٍ آخر غير زمنِ قنسطنطين -وكانت السُّلطة آنذاك بيدِ حاكمٍ مُختَلّ- لم تسلَم حتَّى كنيسة القيامة من الهَدمِ والتَّخريب الَّذي طال كنائس كثيرة في مصر وبلاد الشَّرقِ. ومثلما كان بناؤها حدَثًا جَلَلًا، كان هدمها كذلك على نفس القدرِ من الأهمِّيَّة -أو رُبَّما أكثر- بحيث لم يكُن مُمكنًا لمصادر التَّاريخِ على اختلافِ مشاربها وتوجُّهاتها أنْ تتغافَل عنه أو تتَجاوَزه.

من بين المصادرِ الهامَّة الَّتي تؤرِّخ لتلك الحِقبة المُظلمة، كتاب «سِيَر البِيْعَة المُقَدَسَة» (المعروف بتاريخ البطاركة)، والَّذي تمتازُ روايته عن هدمِ كنيسة القيامة بقرارٍ من الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله (996-1021م)، بسردِ التَّفاصيل والمَيل إلى كشفِ الكواليس، خلافًا للمصادرِ التَّاريخيَّة الأُخرى.

نقرأ في سيرة البابا زخاريَّاس/ 64 (1004-1031م): ”أمَر (الحاكم) بكَتْبِ سِجِلٍّ بهَدمِ القيامة بأورُشَليم، وكان كاتِب السِّجِلِّ نَصرانيّ نسطوريّ يُعرَف بابنِ سيرين. ولمَّا أنفَذ السِّجِلَّ الَّذي كَتَبه صار المَذكور مِثل إنسان سَكِر وصَحِي مِن سُكرِهِ، وفَكَّر في نَفسِهِ بالَّذي فَعَلَه قائِلاً: كَتَبْتُ بيَدي بهَدمِ القيامة! فلَمْ أصبِر عَلى المَوتِ قَبل أنْ يَكون هَذا ولَمْ تُقطَع يَدي اليُمنى قَبل أنْ أكتُب هَذا، ولَو إنَّني امتَنَعتُ ما تُرى كان يُفعَل بي أكثَر مِن ضَربِ العُنقِ؟ وما كُنت أُريد شَهادة خَيرًا مِن هذا. وكان يَقول هَذا وما شاكَله، ومِن شِدِّةِ حُزنِهِ اعتَلَّ ولَزِم فِراش الوَعْك، وكان يَقول: يا يَدي اليُمنى الَّتي جَسَرتي مِن فِعلِ هَذا الأمر الفَظيع أنا أفعَلُ بِكِ ما تَستَحقِّيه، لا أزال أُعَذِّبك. وكان يَرفَع يَدَه ويَضرِبُ بِها الأرضَ طول عِلَّته، حَتَّى تقَطَّعَت أصابِعه ومات“ [مخطوط باريس عربي 303، ورقة 238].

وأوَّل ما نتوَقَّف عنده هويَّة ذلك الكاتب النِّسطوريّ الَّذي يُسمِّيه مخطوط باريس «ابن سيرين»، بينما يردُ في مخطوطاتٍ أُخرى وفي الطَّبعات الَّتي أخذت عنها: «ابن شيرين»! أمَّا الأبّ شيخو فيدعوه: «ابن شاكرين» [شيخو، 1987، صـ 75].. ومن المصادر التَّاريخيَّة الأخرى نعرف أنَّه كان للحاكم كاتب يُدعي «أبو بشر بن سورين»، تولَّى ديوان الإنشاء (السِّجِلاَّت) مُنذ أواخِر عهد العزيز بالله (975-996م)، وهو الَّذي كتب السِّجلّ بوراثةِ الحاكم الخِلافة عن أبيه في الثَّالثِ من شوَّال سنة 386هـ/19 أكتوبر 996م [المقريزي، 1996، صـ5].

وينفردُ «سِيَر البِيْعَة» بذكرِ التَّفاصيل المُتعَلِّقة بموتِ «ابن سورين» حُزنًا وكمَدًا، لشُعورهِ بالنَّدَم بعد كتابته سِجِلّ هَدم كنيسة القيامة، لكنَّنا يُمكِن أنْ نستخلِص من المصادرِ التَّاريخيَّة الأُخرى ما يُعزِّز تلك الرُّواية..

فالمؤرِّخ الملكانيّ المُعاصِر يحيى بن سعيد الأنطاكيّ يذكُر أنَّ الأمر بهَدمِ كنيسة القيامة صدَر أواخر سنة 399هـ، ويُشير إلى أنَّ البدء في تنفيذِ أمر الهَدم جَرى في الخامسِ من شهرِ صفَر سنة 400هـ/27 سبتمبر 1009م [الأنطاكيّ، 1990، صـ279، 280]. ويذكُر ابن القلانسيّ تكليف الحاكم لكاتبهِ «بشر بن سور» بكتابةِ أمر هَدم كنيسة القيامة، ضِمن حوادث سنة 398هـ [ابن القلانسيّ، 1908، صـ67]. أمَّا المؤرِّخ المقريزي فيُشير إلى صدورِ أمر الحاكم إلى كاتبه «ابن سورين» بإنشاء سِجلّ هَدم القيامة أواخر سنة 398هـ، ثُمَّ يعود فيُكرِّر الإشارة نفسها ضِمن حوادث سنة 400هـ، ويذكُر وفاة ابن سورين في شهرِ صفَر من نفسِ السَّنة [المقريزي، 1996، صـ75، 81، 83].

إنَّه درسٌ قاسٍ لمَن يضعُف خَوفًا من بطش أو طمعًا في مُكافأة. والطَّريق دائمًا مفتوح، سواء أمام مَن يُريد أنْ يستَثمِر طاقته في البناءِ أو يُهدِرها في الهَدم.

المصادِر والمراجع:

مخطوط باريس عربي رقم 303، بدون تاريخ (يعود تاريخ نسخه غالبًا إلى القرن 14).

ابن القلانسيّ، ذيل تاريخ دمشق، مطبعة الآباء اليسوعيِّين، الطَّبعة الأولى، بيروت، 1908.

الأنطاكيّ، تاريخ يحيى بن سعيد الأنطاكيّ المعروف بصِلة تاريخ أوتيخا، جروس برس للنَّشر، الطَّبعة الأولى، طرابلس، لبنان، 1990.

لويس شيخو (الأبّ)، وزراء النَّصرانيَّة وكُتَّابها، حقَّقه الأبّ/ كميل حشيمة اليسوعيّ، جونيه – روما، 1987.

المقريزي، اتِّعاظ الحُنفا بأخبار الأئمة الفاطميِّين الخُلفا، ج 2، لجنة إحياء التُّراث، الطَّبعة الثَّانية، القاهرة، 1996.

يوسابيوس القيصريّ، حياة قسطنطين العظيم، تعريب/ القُمُّص مرقس داوود، مكتبة المحبَّة، القاهرة، 1975.




  • تقييم المقال
     
  • مقالات اخري للمولف
  • |
  • طباعه


سياسه التعليقات

اضف تعليقا


عنوان التعليق  
موضوع التعليق  

2012 © Site developed and maintained by PSDWorx