يكتب معلمنا يعقوب: «مَنْ هو حَكيمٌ وعالِمٌ بَينَكُمْ، فليُرِ أعمالهُ بالتَّصَرُّفِ الحَسَنِ في وداعَةِ الحِكمَةِ. ولكن إنْ كانَ لكُمْ غَيرَةٌ مُرَّةٌ وتَحَزُّبٌ في قُلوبكُمْ، فلا تفتَخِروا وتَكذِبوا علَى الحَقِّ. لَيسَتْ هذِهِ الحِكمَةُ نازِلَةً مِنْ فوقُ، بل هي أرضيَّةٌ نَفسانيَّةٌ شَيطانيَّةٌ. لأنَّهُ حَيثُ الغَيرَةُ والتَّحَزُّبُ، هناكَ التَّشويشُ وكُلُّ أمرٍ رَديءٍ. وأمّا الحِكمَةُ الّتي مِنْ فوقُ فهي أوَّلًا طاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذعِنَةٌ، مَملوَّةٌ رَحمَةً وأثمارًا صالِحَةً، عَديمَةُ الرَّيبِ والرّياءِ. وثَمَرُ البِرِّ يُزرَعُ في السَّلامِ مِنَ الّذينَ يَفعَلونَ السَّلامَ» (يع3: 13-18).
الحكمة فضيلة ظهرت في حياة أمنا العذراء بقوة، وفيها اكتملت علامة الحكمة النازلة من فوق، فأمنا العذراء بحكمة قبلت الدعوة التي حملها لها الملاك بإذعان قائلة: «هوذا أنا أمة الرب» (لو1: 38 )، وبحكمة مملؤة بساطة ذهبت لتخدم بيت أليصابات نسيبتها حتى تلد. بحكمة أطاعت القديس يوسف البار عندما قرّر الهروب إلى مصر بأمر من ملاك الرب، وبدون ريب تحركت حاملة طفلها إلى أرض مصر الغريبة عنها، وبحكمة امتلأ قلبها بالرحمة وشعرت باحتياج أصحاب عرس قانا الجليل فترفّقت بهم وطلبت من أجلهم، وبحكمة ارتضت بسلام أن ينشغل ابنها بعمل الخدمة والكرازة فلم تحزن بل امتلأ قلبها بالسلام عندما أشار ابنها للجموع قائلًا: «ها أمي وإخوتي» (مر3: 34)، وبحكمة أيضًا وقفت تحت الصليب صامتة رغم الآلام التي تعتصر قلبها لأنها كانت تعرف أن السيد يصنع خلاصًا للعالم كله.. لذلك امتلأت حياة أمنا العذراء بثمار هذه الحكمة.
والحكمة المسيحية فضيلة لا يمكن أن نفصلها عن فضيلة البساطة، فالرب يسوع أوصانا «كونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام» (مت10: 16)، فالحكمة بدون بساطة قد تصير مكرًا، والبساطة بدون حكمة قد تقود إلى الحماقة.
ومقياس الحكمة المسيحية هو التصرُّف الحسن، فالإنسان الحكيم لا يعرف السلبية، بل يصنع الخير والصواب بجكمة وبساطة رغم شرّ الآخرين. هكذا صنع يوسف البار فتصرّف بحكمة نحو مسئوليته، ومع إخوته، رغم الشر الذي أظهروه نحوه.
الحكمة المسيحية تستطيع أن تقتنيها بالصلاة الدائمة «من تعوزه حكمة فليطلب من الله» (يع1: 5)، والدراسة الدائمة في الكتب المقدسة، والتأمل في قصص الكتاب المقدس. كما يساعدك مرشدك الروحي دائمًا أن تسلك طريق الحكمة، وأيضًا رصيد خبراتك الروحية يستطيع أن يهديك إلى طريق الحكمة في مرات كثيرة. وإن تحيّرتَ في مواقف صعبة، حاول أن تسأل نفسك: ماذا كان الرب يعمل لو واجه هذا الموقف؟
الاندفاع والتسرع في الكلام أو اتخاذ القرارات قد يفقدك الحكمة المسيحية، لذلك في كل مواقف حياتك تأنَّ وصلِّ أن يعطيك الرب حكمة التصرُّف الحسن ومعرفة مشيئته الحكيمة دون اندفاع أو تسرُّع.
الحكمة المسيحية أيضًا تجعلك تستطيع أن تتصرف بحكمة قي المواقف المتباينة، وتجعلك قادرًا أن تفرّق بين المتناقضات، فتعرف متى تتكلم ومتى تصمت بحكمة وليس صمتًا مَغيظًا، وتستطيع أن تصنع توازنًا بين محبة الله ومخافته في حياتك، وتستطيع أن تصنع الخير برحمة لا تخلو من الحزم كلما احتاج الأمر.
الحكمة البسيطة درس نحتاج أن نتعلمه من أمنا العذراء، ونجاهد خلال فترة الصوم لنقتني هذه الفضيلة التي تميزت بها الشفيعة الأمينة الحكيمة لجنس البشرية.