هناك تزايد مستمر لحالات الانتحار في الآونة الأخيرة، جعلته قضية أساسية لاهتمام المجتمع، وهو ما يدفعنا إلى مواجهة هذه المشكلة والحد من انتشارها.
هناك أسباب متعددة قد تدفع الشخص للانتحار، يُعتبر الاكتئاب واليأس عاملان رئيسيان للانتحار، إلى جانب الاضطرابات النفسية من الاضطراب الثنائي القطب، والشيزوفرينيا واضطرابات القلق وتقلُّبات الشخصية وتعاطي المخدرات، والاضطراب العقلي، كما أن هناك أسباب اجتماعية مثل الشعور بالانعزال، أو عدم القبول من الآخرين.
ينظر الكتاب المقدس إلى الانتحار بكونه إنكارًا للحياة، فحينما قتل شاول نفسه بعد موت أبنائه وهزيمته في المعركة، محاولًا تفادي الوقوع في يد الفلسطنيين، لا نجد أيّة إشارة إلى أنه قد أنهى حياته بشكل بطولي (1صم31: 4، 5؛ 2صم17: 23)، كما انتحر أبيمالك ملك شكيم إذ أمر حامل سلاحه بقتله (قض9: 54). كذلك خاف زمري أن يقع حيًا في يد عُمري فأحرق الدار وهو بها (1مل16: 18)، كذلك انتحر رازيس خوفًا من الوقوع في يد نكانورر (2مك14: 37-46). وأخيتوفل شنق نفسه عندما لم يعمل أبشالوم بمشورته (2صم17: 23). كما انتحر يهوذا بعدما أسلَّم السيد المسيح مضى وخنق نفسه (مت27: 5).
يفرق مالينوفسكي (عالم اجتماع بولندي) بين دافعين للانتحار، الأول: الانتحار كتكفير الذنب بعد خطيئة، وبالأحرى هروب من تأنيب الضمير، ومن أمثلة هذا النوع يهوذا الإسخريوطي ، والثاني: انتحار نتيجة الشعور بالقهر بعد الشعور بالهزيمة أو الإهانة والانكسار، وأخيتوفل أحد هذه النماذج.
ولا بد من مراعاة الآتي:
1- المنتحر قاتِل نفس: حياة الإنسان مكتسبة من الله: «الَّذِي بِيَدِهِ نَفَسُ كُلِّ حَيٍّ وَرُوحُ كُلِّ الْبَشَرِ» (أي12: 10)، فليس لأحد أن يدّعي أنه يملك حياته. ويذكر القديس أغسطينوس أن الانتحار هو ضد الوصية السادسة «لاَ تَقْتُلْ» (خر20: 13).
2 – الانتحار ضد إرادة الله: يقول القديس يوستينوس الشهيد: [إن قمنا جميعنا بقتل أنفسنا، إن كان الأمر متروك لنا، فلن يولد أحد بعد، ولن يتعلم أحد التعاليم الإلهيّة، وهذا أيضًا سيؤدي إلى زوال الجنس البشريّ. وإن تصرفنا هكذا سوف نكون مخالفين إرادة الله]. فلا تظن أن الانتحار يخلصك من الحياة وما فيها من ألم، بل أنه سيكون بداية لحياة أخرى كلها ألوان من ألم لا يُطاق، وبغير حدود لها في الزمن.
3- الانتحار حل سلبي لمواجهة ضغوط الحياة: يعاني المنتحر من مشكلة في التكيُّف مع الضغط النفسي، فمهما كانت ضغوط الحياة، فلا بد أن نعي أن «آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا» (رو8: 18)، فلا يحق لنا أن ننهي حياتنا، فقد اعتبر القديس اكليمنضس السكندري أن مواجهة الحياة بآلامها تُعد نوعًا من الاستشهاد. السيد المسيح عندما رسم لنا علامات الطريق، قال «قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يو16: 33)، بينما في الأبدية، التي نعيش على رجائها وبالأحرى نستعد لها من الآن: «سَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ» (رؤ21: 4).
4- غياب الترابط الأسري: يؤدي إلى شعور الأبناء بالرعب من آبائهم، لذا يجب الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية سواء بين أفراد الأسرة، أو الصداقة البنّاءة التي تكون مبنية على الإصغاء والتفاهم والتسامح. كذلك ملاحظة بعض المؤشرات على أفراد الأسرة، مثل الانسحاب من التواصل الاجتماعي، التقلبات المزاجية، وتعاطي الكحوليات أو المخدرات، وتغير الروتين المعتاد، بما في ذلك أنماط الأكل أو النوم.
إن محاولة الانتحار ليست فعلًا بسيطًا يمسّ مرتكبيه فقط: بل هو صدمة عميقة تمسّ كلّ أفراد الأسرة والمجتمع، فهو فعل متشعّب المعاني والأطراف.
وصية لكل أب وخادم: كن مستمعًا جيدًا، وأطلب من ابنك ومخدومك أن يتحدثوا عن مشاعرهم. ولا ترفض الاعتراف بمشكلاتهم أو تحتقرها. بل حاول بث روح الطمأنينة والإيجابية والحب فيهم «لأَنَّ اللهَ لَمْ يُعْطِنَا رُوحَ الْفَشَلِ، بَلْ رُوحَ الْقُوَّةِ وَ الْمَحَبَّةِ وَ النُّصْحِ» (2تي1: 7). ذكّر ابنك ومخدومك بأنه ما من مشكلة إلا ولها حل وأنك ترغب في مساعدته وأنه «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي» (في4: 13).