أنتم ملح الأرض
نيافة الأنبا بنيامين أسقف المنوفية
23 سبتمبر 2022 - 13 توت 1739 ش
لقد وصف السيد المسيح القديسين ومَنْ يسمع كلامه في خدمته بهذا الوصف لأنهم ملح الأرض، ودعونا نقول عدّة اعتبارات كخصائص في الملح لأنه لازم للطعام ولا غنى عنه في الغذاء، وهكذا خدام الله من الرسل القديسين إلى الآن، تحتاجهم الكنيسة لكي يعلموا مَنْ يريد أن يتعلم بكلام الله. والملح يذوب ويختفي ولكنه يؤثر في الطعم، حتى لو لم يره أحد ممن يأكل الطعام الذي وُضع عليه الملح. والملح أيضًا له خاصية الانتشار في السائل الذي يذوب فيه حتى ولو لم يره أحد، لكن يشعر بتأثيره. والملح مخلوق في الطبيعة، لكن يحتاج إلى تنقية من الشوائب العالقة به، وفي هذا يرمز للمؤمنين الذين يحتاجون إلى تنقية دائمة من الضعفات والميول الخاطئة والرغبات غير المقدسة العالقة بالإنسان. والعجيب أن الملح حين يوضع على طعام أو شراب يُبرز طعم هذا المأكل أو المشرب ولا يلغيه لكن يُظهره، هكذا الإنسان الصالح حين يخدم الله يؤثر في الشعب الذي يسمعه حتى يظهر معدنهم الصالح للكل، وذلك بسبب أن الخادم الصالح لا يُفقدهم شخصيتهم لكن يُبرر ما فيهم من معدن صالح وصفات جيدة. والطبيعي أن تجد مَنْ يعمل لصالح المجتمع، إنه كنسيم هادئ يستنشقه الآخرون، وفيه نسمات الحب النقي.
تركيبة الملح (كلوريد الصوديوم) وكلاهما سام وقاتل، لكن باتحداهما معًا يكوّنان الملح اللازم للغذاء، اللازم للحياة، مثل الإنسان المكوّن من عنصرين (النفس والجسد)، وهما مختلفان لكن لا يتصارعان بل يخضعان لله في محبة حين يتفقان معًا في توجُّه واحد نحو الفضيلة وحياة القداسة؛ وهذا عمل روح الله، ويقول القديس ذهبي الفم: "قال الرب للرسل: ها أنا أرسلكم ليس إلى مدن فقط ولكن إلى العالم كله، لمن فقدوا نكهتهم وفسدوا بسبب الخطيئة، وقبل أن يرسلهم حذرهم أن لا يكونوا كملح فاسد"، ويقول القديس أغسطينوس: "إن كنتم الذين بواسطتكم تُحفَظ الأمم من الفساد تخسرون ملكوت السماوات بسبب الخوف من الطرد الزمني، فمَن هم الذين يرسلهم الرب لخلاص نفوسكم؟"، ويقول القديس جيروم: "يشفع الكاهن لدى الله من أجل الشعب لأجل خطيئتهم، ولكن ليس مَنْ يشفع في الكاهن متى أخطأ"، بمعنى أن الكاهن مفروض أن يحفظ نفسه من الفساد الذي يفقده مكانته. ويفسر القديس ذهبي الفم عبارة: «إن فسد الملح فبماذا يُملّح؟!»، فيقول: "إن سقط مَنْ يتعلمون ربما يستطيعون أن ينالوا العفو كتلاميذ، ولكن إن سقط المعلّم فإنه بلا عُذر ويسقط تحت انتقام غاية في القسوة"... لذلك سأل السيد المسيح: «فبماذا يُملَّح؟» أي كيف يعود ملحًا جيدًا بعد أن فقد ملوحته... أي ماذا يرده ملحًا صالحًا من جديد؟! أخشى أن يسقط تحت عقوبات غاية القسوة... ومعروف أن الملح له اللون الأبيض إشارة للنقاوة، وهكذا الإنسان المسيحي يجب أن يعيش وسط المجتمع بحياة نقية (أي بيضاء كالملح)، ويكون قادرًا بقدوته الصالحة أن يؤثر فيمن حوله، فيمتنع عن الفساد وفقد النقاوة والملوحة الصالحة التي أعطاها له الله، ويحذر من فقد القدوة، لأن الحكم صعب إذ يقول «وإن فسد الملح فبماذا يُملّح؟ لا يصلح لشيء إلّا أن يُطرح خارجًا ويُداس من الناس»، أي يعود كالأرض التي أُخذ منها وتكون النتيجة أنه يُداس من الناس!... لذلك طلب السيد المسيح من الآب لا أن يأخذهم من العالم بل أن يحفظهم من الشرير (يو17: 15)، لذلك نصلي أن يحفظنا الرب ملحًا نقيًا مؤثرًا جدًا.