الاعتدال هو تجنُّب التطرُّف، وممارسة التحفُّظ، ويتطلّب ضبط النفس، فهو مقابل للمبالغة سواء كانت سلبًا أو إيجابًا. فالوسطية موقف بين الانحلال والتشدد، بين الإفراط في الزيادة، والتفريط الذي هو النقص، فهي موقف سلوكي ومنهج فكري يشمل كلّ أمور الحياة. عاش سليمان الحكيم حياة الإفراط، فقال: «مَهْمَا اشْتَهَتْهُ عَيْنَايَ لَمْ أُمْسِكْهُ عَنْهُمَا. لَمْ أَمْنَعْ قَلْبِي مِنْ كُلِّ فَرَحٍ لأَنَّ قَلْبِي فَرِحَ بِكُلِّ تَعَبِي. وَهَذَا كَانَ نَصِيبِي مِنْ كُلِّ تَعَبِي» (جا2: 10). ولكنه عاد فقال: «ثُمَّ الْتَفَتُّ أَنَا إِلَى كُلِّ أَعْمَالِي الَّتِي عَمِلَتْهَا يَدَايَ وَإِلَى التَّعَبِ الَّذِي تَعِبْتُهُ فِي عَمَلِهِ فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ!» (جا2: 11).
الاعتدال صفة تلازم الإنسان: الحيوان لا يعرف الاعتدال لأنَّ غرائزه تُسيِّره، فهو لايملك حريَّة الإرادة. وما عدم الاعتدال أو عدم القناعة إلّا جموح الرغبة في الحصول على أمر ربَّما حُرِم الإنسان منه فزاد في طلبه وبَالَغ. وهنا يأتي الاعتدال ليُلزم المرء بخير الأُمور أي بأَوسطها.
الاعتدال بين متطلبات الجسد والروح: الحياة المسيحية حياة معتدلة في كل شيء خاصةً في المأكل والمشرب والملبس والمرح، فهي تحمي الإنسان من الهذه الأمور، فيقول معلمنا بولس الرسول: «لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ» (أف5: 29)، فالجسد وزنة يُعطي عنها الإنسان حسابًا، وهو أيضًا الذي قال: «أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ» (1كو9: 27)، أقمع جموح شهوات الجسد كي أستعبده لطاعة الروح. حتى الأمور والأشياء الصالحة يمكن أن تُصبح حجر عثرة بالنسبة لنا، إذا لم تُستخدم باعتدال. النوم ضروري فالله «يُعْطِي حَبِيبَهُ نَوْمًا» (مز127: 2)، ولكن الإفراط فيه يقود إلى الفقر (أم6: 9-11). الاعتدال هو ضبط النفس وهو أحد ثمار الروح القدس «تَعَفُّفٌ» (غلا5: 23)، فأن تأكل بتعفف أي ليس بنهم، وهكذا تجاه كل احتياجات الجسد وحواسه. الاعتدال ليس ضد الرغبة في الرقي والطموح في الحياة أو العمل، بل يحمي الإنسان من الوقوع في الطمع والجشع وحُبِّ التسلُّط والتملُّك والإحتكار.
ويقول قداسة البابا تواضرس الثاني: [الحياة الروحية هي الإطار الذي يجمع ثلاثة محاور هامة: النعمة وعملها، الإنسان بتوازنه، وأخيرًا الكنيسة وأسرارها وصولًا إلى بلد الحب. خلق الله الإنسان وجعله: عاقلًا، عاملًا، عابدًا. لكن التوازن هو الركيزة الأساسية لنجاح هذه المنظومة. فالتوازن في حياة الإنسان مُرتبط ارتباطًا وثيقًا بالشِّبع الروحي، فالعقل يتغذَّى بأعمال القراءة والمعرفة، والروح تسمو بالعمل الروحي والشِّبع الشخصي بالمسيح].
الرهبنة ومنهج الاعتدال: قال الأنبا إيسيذورس للقوي أنبا موسي: [ينبغي عليك الاعتدال في كل شيء حتى في أعمال الحياة النسكية]، فالميراث الحقيقي للراهب هو الاعتدال والقداسة، فيتفرغ فكره وقلبه، ليس في أنانية مُحطِّمة للنفس، وإنما لأجل المجد المُنتظر في السماء. فيقول أحد الآباء: [زينة الراهب الشاب الاعتدال في الأكل والشرب الذي يحفظ البتولية بلا عيب].
كان القديس الأنبا أنطونيوس مثالًا في الاعتدال والاتِّزان في حياة النسك والتقشُّف، فيصفه القديس أثناسيوس الرسولي بعد أن قضى عشرين سنة دون أن يخرج، بقوله: [خرج أنطونيوس وكأنه يخرج من الهيكل وهو يحمل الله ويتلقَّن سرّه. فكانت الـــمــرّة الأولى التي يظهر فيها خارج الحصن. فتعجبوا منه، لأنّهم رأوا جسده في حالـته المُعتادة، أي أنّه لم يترهّل كشخص لم يُمارس رياضة بدنيّة، ولم يضعف بسبب كــثرة الأصوام وصراعه مع الشياطين] (14).
يتكلم الأب يوحنا عن فلسفة الاعتدال، فيقول: [إذا أتخذنا الوسط تمامًا نصل قليلًا قليلًا إلى ما هو أفضل، فلا يجب علينا إذا وضعنا قدمًا على الدرجة الأولى من السلم أن نرغب في وضع الأخرى على الدرجة الأخيرة مباشرة!، لأن الذين يبلغون إلى القامة يمكنهم أن يشبعوا وأن يجوعوا (في4: 12) لأنهم تدربوا على كل شيء] (فردوس الآباءج3)، فالأمر يحتاج إلى تدرج وتدريب.
الأمر الوحيد الذي لا نحتاج أن نقلق بشأن الاعتدال فيه هو حب الله بلا حدود (لو10: 27). وهي الطريق الحقيقي للاعتدال في كافة الأمور.