منذ بداية المسيحية وحتى عصرنا الحاضر، كان هناك نوعان من التحديات تواجه المؤمنين بالمسيح: أولًا: تحدي الإيمان، بمعنى هل الله موجود؟ هل العقائد المسيحية صحيحة؟ ثانيًا: تحدي الوصية، هل الوصايا المسيحية ممكنة التنفيذ، ومناسبة لكل عصر ولكل شخص؟ بالنسبة لمسألة الايمان، هناك صراع دائم بين الاعتراف بوجود الله ورفض وجوده، وهذا أمر يجب ألا يزعجنا، فهو ثمرة الحرية الإنسانية التي أعطاها الله لنا، وهي مكفولة لكل إنسان ويجب أن تكون هكذا، فالإيمان القائم على القهر أو الخوف أو الخداع ليس إيمانًا بالمرة. الإيمان ليس سهلًا، والإنسان لا شك يحتاج لمعونة إلهية ليؤمن ويثبت في إيمانه، ولكن ما دور العقل في الايمان؟ وهل يكفي فقط للوصول لكمال الإيمان؟ لا شك أن العقل له دور مهم جدًا في الايمان، ولكن إلى أي مدى يمكن أن يسعفنا العقل؟ العقل مخلوق والله غير مخلوق، فإذا كان الخالق تحت العقل، فلن يصبح خالقًا بعد، بل سيكون كأحد المخلوقات، فكل ما يمكن أن نحيط به بعقولنا، لا شك أنه مخلوق. إذًا، فالإله الذي يمكن إدراكه والإحاطة به تمامًا بعقولنا ليس إلهًا، بل سيكون مجرد كائن خلقه الإنسان ورسم حقيقته على حسب قدراته وتصوراته.
الله سرّ، هو يفوق كل كلام وكل فهم، الفكر وحده لا يستطيع أن يحيط بالله أبدًا إحاطة كاملة، مهما كانت قدراتنا الذهنية والعقلية، ومستحيل أن نعرف الله من حيث جوهره وكماله. لذا ينبغي أن نعرف أنه ليس هناك إجابة كاملة عن كل سؤال يخص الله وجوهره وطبيعته وأسراره وطرقه، فالله ليس مسألة رياضية أو نظرية هندسية حتى نبرهن على وجوده بالعقل فقط، وبالتالي فالإيمان بالله ليس مثل اليقين المنطقي الذي نعرفه في الهندسة، فالله ليس استنتاجًا عقليًا فقط، بل هو كائن، موجود، يمكننا أن نقيم علاقة شخصية معه من خلالها ستتأكد معرفتنا له.
ولأننا لا نعرف أن نصف ما هو الله فإننا نصف ما ليس هو الله، ولنا في صلوات القداس الإلهي نموذج رائع لهذا الامر، فالله في القداس الغريغوري يُوصف بأنه: "لا يُنطق به. غير المرئي. غير المحوي. غير المبتدئ الذى لا يُحد. غير المفحوص..."، وهذا ما يُعرف بالمنهج السلبي (Apophatic)، والعبارات النافية بالنسبة لله هي تأكيدات فائقة على أن الله يفوق إدراكنا وفهمنا إلى ما لانهاية. ومن هنا كان احتياج الانسان للوحي والذي من خلاله كشف الله للإنسان عن ذاته بالقدر الذي يريده هو، ثم كمال الكشف كان من خلال تجسده. وحتى ما نذكره عن الله بشكل إيجابي، مثل عادل، حكيم... الخ، فلا يجب إن نفهمه بمعايرننا البشرية، أو كما نفهم ونستخدم هذه الكلمات في عالم البشر.
اذًا، ماذا يحتاج الإنسان لكي يعرف الله؟ الحل ليس هو العقل فقط، بالطبع، لا بد من الدراسة والبحث وإعمال العقل، ولا شك ان تأمل الإنسان للعالم وترتيبه ولنفسه وكيفية خلقته يمكن أن يقوده الى وجود خالق، ولكن هذا سيظل إيمانًا نظريًا مُعرَّضًا للعواصف ما لم تكن هناك الخبرة الشخصية. نحن نحتاج -بجانب العقل- إلى الخبرة الروحية الشخصية، والتي لها الدور الأهم عندما يقف العقل ولا يستطيع أن يذهب إلى أكثر من قدراته في كل ما يخص الله وطبيعته، ولا نستطيع البرهنة عليه بشكل كافٍ، إنها طوق النجاة في وقت التجربة الشديدة حينما يصطدم العقل بالإيمان. الإيمان طريق للحياة، يُعاش وينمو ويتأصل من خلال الخبرة الشخصية الروحية الصحيحة والحقيقية -بالرغم من دور العقل المهم في فهم الإيمان وجعله معقولًا- وهذه الخبرة تحفظ للإنسان إيمانه بعيدًا عن الشكوك الهدّامة، حتى وإن كان هناك دائمًا تساؤلات وشك من أجل اليقين. لذا فعبارة «أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي» (مر٩: ٢٤) يمكن أن تلازم الإنسان حتى آخر العمر، فالشك لا يعني دائمًا عدم الإيمان. نحن نحتاج إذًا أن نحيا الإيمان، فهو الأساس الذي تُبنى عليه حياتنا المسيحية، وممارساتنا التقوية الروحية وشركتنا مع المسيح، فكيف يُمارس الشخص ما لا يؤمن به، وأعتقد أن أصعب ضربة يمكن أن تصيب شخصًا ما في طريقه الروحي هي فقدانه الإيمان بصحة أو جدوى ما يفعله.