من أعمق وأجمل ما ورد في سفر الأمثال المثل القائل: «أما يضل مخترعو الشر؟ أما الرحمة والحق فيهديان مخترعي الخير» (أم14: 22). وبحسب الترجمة السبعينية: «الضالون يخترعون الشر، أما الرحمة والحق فيخترعهما الصالحون». وما استوقفني في ذلك المثل كلمة "مخترعو". ومعنى الكلمة في أصلها العبري واليوناني: اختراع، بناء، صناعة، حفر على لوح، حرث أرض. وكل هذه المعاني تشير إلى أفعال تحتاج لتخطيط وإبداع وجهد لتنفيذ اختراع ما. والحقيقة أن ذلك المثل وإن كان المثل الوحيد الذي يتحدث عن اختراع الخير في سفر الأمثال، إلّا أنه ليس المثل الوحيد الذي يتحدث عن اختراع الشر. «لا تخترع شرًا على صاحبك وهو ساكن لديك آمنًا» (أم3: 29)؛ «الرجل اللئيم، الرجل الأثيم... في قلبه أكاذيب. يخترع الشر في كل حين» (أم6: 12-14).
واختراع الشر عبارة ليست بغريبة على المسامع ولا عن خبرات الحياة. فلا بد وأن نكون جميعنا قد تواجهنا مع اختراعات الشر سواء على مستوى شخصي أم مستوى عام. فكل مؤامرات الأشرار هي اختراع شر. ومن أمثلتها على المستوى العام: مؤامرات الحروب، وتدابير الأوبئة، والكوارث، واستخدام العلوم والمعامل والمصانع لعمل اختراعات وتصنيع أسلحة تهدف لتدمير البشرية، وإنتاج الأفلام الإباحية، والألعاب الإلكترونية المدمرة للأطفال والشباب... إلخ. أما الأمثلة على المستوى الشخصي فهي متعددة أيضًا ومنها: المكائد المُدبَّرة من زملاء العمل، أو الجيران، أو الأقارب، أو الزوج أو الزوجة... إلخ.
والحقيقة أن مخترع الشر الأول بامتياز هو عدو الخير الذي لا يكلّ ولا يملّ، وهو الذي يوحي لأعوانه من البشر بكل ما هو متطور في إبداعات الشرور. من أجل هذا وضع لنا آباء الكنيسة المُقادون بالروح القدس أن نصلي صلاة الشكر عدة مرات في اليوم الواحد سواء في الأجبية، أو القداس، أو أي صلاة طقسية. ومن ضمن عباراتها: "كل حسد، وكل تجربة، وكل فعل الشيطان، ومؤامرة الناس الأشرار، وقيام الأعداء الخفيين والظاهرين، انزعها عنا وعن سائر شعبك وعن موضعك المقدس هذا".
والآن لنأتي إلى عبارة "مخترعو الخير". إنها حقًا عبارة عجيبة لا بد أن تقودنا لأن نتسائل ما هو يا ترى اختراع الخير؟ إن كان الفعل المستخدم في هذه العبارة هو نفسه الفعل المستخدم في عبارة "مخترعو الشر" فإن ذلك يعني أن اختراع الخير يتطلب نفس التخطيط، والجهد، والسعي الدؤوب الذي يتطلبه اختراع الشر. والترجمة السبعينية لهذا المثل تعطينا تعريفًا أوضح لاختراع الخير إذ تقول: "أما الرحمة والحق فيخترعمها الصالحون". يعني ذلك أن الخير المطلوب من كل أبناء الملكوت الاجتهاد في اختراعه بل وإبداعه هو كل ما يرتبط بالرحمة والحق.
والمخترع الأول للخير بامتياز هو إلهنا كلي الصلاح. فكل عمل الخلق الذي أتمه في البدء هو اختراع خير، وكل تدابير الخلاص التي اعتنى بها من أجلنا منذ الأزل هي اختراع خير، وكل عنايته الفائقة بكل الخليقة هي اختراع خير. بالتالي، ينبغي علينا أن نتشبه بأبينا السماوي ونجتهد في اختراع الخير، وإلا نسقط تحت الحكم والدينونة لكون أبناء الظلمة أكثر غيرة ودأب في اختراع الشر من أبناء النور في اختراع الخير. ومجالات اختراع الخير عديدة، ومن أمثلتها: صناعة السلام بين المتخاصمين، كل تدبير صالح في كافة مجالات الخدمة، الكلمات المُصلَحة بملح في الأحاديث، الإبداعات الفنية والأدبية الروحية... إلخ أنظروا مثلًا كيف أسرعت السيدة العذراء في الذهاب لأليصابات والاجتهاد في خدمتها فاخترعت خيرًا. باختصار، كل عمل مذخر بالمحبة هو اختراع خير!!