نتيجة طبيعية لخطايا بني إسرائيل جاء قضاء الله العادل: «بِلاَدُكُمْ خَرِبَةٌ. مُدُنُكُمْ مُحْرَقَةٌ بِالنَّارِ. أَرْضُكُمْ تَأْكُلُهَا غُرَبَاءُ قُدَّامَكُمْ وَهِيَ خَرِبَةٌ كَانْقِلاَبِ الْغُرَبَاءِ» (إش1: 7)، وهنا يذكر إشعياء لأول مرة كلمة البقية التي تميز بها سفره «لَوْلاَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ أَبْقَى لَنَا بَقِيَّةً صَغِيرَةً لَصِرْنَا مِثْلَ سَدُومَ وَشَابَهْنَا عَمُورَةَ» (إش1: 9)، وقد اقتبسها منه القديس بولس الرسول معبرًا بها عن القلة الأمينة من اليهود التي قبلت الإيمان بالسيد المسيح (رو9: 29). وكأن ما حدث في أيام إشعياء يتكرر في كل الأجيال حتى في العصر الرسولي، وفي كل جيل.
البقية نعمة من الله: من رحمة الله أنه يبقي بقية مثلما أبقى نوحًا الذي «وَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ» (تك6: 8)؛ لأجل تجديد الأرض مرة أخرى. وأبقى لوطًا من سدوم (تك19: 1)، ولم يُبقِ من شعب إسرائيل الذين خرجوا من أرض مصر إلاَّ كالب ويشوع بن نون. وفي أيام أخاب وإيزابل كان إيليا الذي قال: «... فَبَقِيتُ أَنَا وَحْدِي. وَهُمْ يَطْلُبُونَ نَفْسِي لِيَأْخُذُوهَا» (1مل19: 10)، بينما يقول له الرب: «قَدْ أَبْقَيْتُ فِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَةَ آلاَفٍ، كُلَّ الرُّكَبِ الَّتِي لَمْ تَجْثُ لِلْبَعْلِ وَكُلَّ فَمٍ لَمْ يُقَبِّلْهُ» (1مل19: 18)، كما أبقى الرب «بَقِيَّةً صَغِيرَةً» مُكوَّنة غالبيتها من سبطي يهوذا وبنيامين لترجع من السبي في بداية حكم الفرس وتبدأ في بناء الهيكل بأمر كورش الفارسي (2أخ36: 22)، هذه البقية أبقاها الرب لنفسه بكونها عمله، يهبها روحه القدوس فتكون مخصصه ومقدسة له، وتكون خميرة صغيرة تخمر العجين كله (1كو5: 6)، مثل دهنة الزيت الصغيرة التي بقيت لدى الأرملة وبها ملئت جميع الأوعية كقول أليشع (2مل4: 6)، فالله لا ينسى أبناءه الأمناء وسط الضربات، وبسببهم لا يحطم كل الشعب الفاسد.
الله ينظر إلى الكيف لا الكم: عاد اليهود من سبي بابل وواجهتهم صعوبات من مقاومة جيرانهم لهم، وافتقارهم للموارد المالية، حتى أن زربابل تردد في البناء بعد أن وضع حجر الأساس، ولكن الله الذي يعمل بالقليل، فقال لزربابل: «لاَ بِالْقُدْرَةِ وَلاَ بِالْقُوَّةِ بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ» (زك4: 6)، هكذا عمل بموسى النبي، وبيونان، وبقوة رب الجنود استطاع داود أن يقهر جليات، فالله لا يهتم بكثرة العدد وإنما بالبقية القليلة التي تتقدس له وسط الفساد الذي يحل بالكثيرين. فخلّص بني إسرائيل من الْمِدْيَانِيِّينَ بِالثَّلاَثِ مِئَةِ رَّجُلِ الَّذِينَ وَلَغُوا «لِئَلاَّ يَفْتَخِرَ عَلَيَّ إِسْرَائِيلُ قَائِلاً: يَدِي خَلَّصَتْنِي» (قض7: 2)، وبإيليا جعل القليل «مِلْءُ كَفٍّ مِنَ الدَّقِيقِ فِي الْكُوَّارِ، وَقَلِيلٌ مِنَ الزَّيْتِ فِي الْكُوزِ» لا يفرغ في بيت أرملة (1مل17: 16). ونظر إلى فلسي الأرملة (مر12: 42). هذه البقية هي القطيع الصغير، الذين وعده قائلاً: «لاَ تَخَفْ أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ» (لو12: 32). ومن أجل هذه البقية القليلة يقصر الله أيام الضيق في الأزمنة الأخيرة (مت24: 22).
لذلك كن من البقية القليلة: يقول يوحنا كاسيان: [انظر أن تنتمي إلى القلة المختارة، ولا تسلك ببرود متمثلًا بتراخي الكثيرين؛ عش كالقلة حتى تتأهل معهم للتمتع بالله لأن كثيرين يُدعون وقليلين يُنتخبون
(مت 20: 16)]Institutes 4:38.. فعندما ترى نفسك صغيرًا وتقول: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لأَنِّي وَلَدٌ» (إر1: 6)، لأن الله هو الذي يبقي البقية، فهو الذي يرسلك، وعندما ترى نفسك: «نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ» (إش6: 5)، فهو الذي يطهرك، فهو الذي يُبقي الـ
«بَقِيَّةً صَغِيرَةً».