كل صوم له هدف، والكنيسة تحاول أن تساعدك في تحقيق هذا الهدف من أجل إصلاح الجهاز الروحي في الإنسان. هذا الجهاز الروحي يتكون من أذن وعين وفم وقلب. الأذن الروحية تكون سليمة بالطاعة، والعين الروحية تكون سليمة بالبساطة والنفاوة.. سأتكلم معكم اليوم عن صوم الرسل، وصوم الرسل الهدف منه إصلاح الفم.
الهدف من الفم هو الكلام في الأساس، وأكثر نشاط يقوم به الإنسان كل يوم هو الكلام؛ والكلام يتعلق به أشياء كثيرة، متعلق به السمع والكتابة والقراءة، فكل هذه الأنشطة مرتبطة بالفم والكلام. فكرة الفم وفكرة الصوم الرسل قائمة على عبارة «تكونون لي شهودًا» (أع1: 8). يصير الإنسان المسيحي شاهدًا للمسيح، والشهادة تمرّ بمراحل متعددة حتى يتحول الإنسان من شاهد إلى شهيد، فالكلمة لها معنى كبير جدًا. لاحظوا أن الوصية الأخيرة للسيد المسيح لتلاميذه هي: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باِسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر» (مت28: 19، 20)، فالوصية الأخيرة للسيد المسيح وهي العمل الأول للرسل وكل من يؤمن بالمسيح هي الشهادة.
عن أهمية الكلام قال أحد الفلاسفة اليونانيين قديمًا: "تكلم حتى أراك"، وهناك تعبير مشابه في الإنجيل: «لغتك تظهرك» (مت26: 73)، وهناك أمثلة شعبية كثيرة في مجتمعنا المصري مثل: "لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإن هنته هانك"، وتذكّرنا بالآية: «بكلامك تتبرّر وبكلامك تُدان» (مت12: 37). هناك تعبير صعب يقول: "قلب الأحمق في فيه، ولسان العاقل في قلبه"، أي أن الأحمق لسانه يقول أي كلام يخطر له، في أي وقت وبأيّة صورة، بينما لسان العاقل في قلبه. الأذن تسمع والعين ترى، كلاهما يستقبل، لكن اللسان مع القلب يرسل. الخطورة في الفم واللسان أن ما يخرج منه لا يمكن أن يرجع، حتى لو اعتذر الإنسان عن إهانة أو غضب أو نميمة أو عدم ستر... الخ. يقول سليمان الحكيم: «مَنْ يَحفَظُ فمَهُ ولِسانَهُ، يَحفَظُ مِنَ الضّيقاتِ نَفسَهُ» (أَم21: 23)، وهو ما جعل داود النبي العظيم يقول: «اجعَلْ يا رَبُّ حارِسًا لفَمي. احفَظْ بابَ شَفَتَيَّ» (مز141: 3)، اجعل بوّابة حديدية أمام شفتيّ. قد تخرج كلمة من فم الإنسان وتمنع خطية مثلما نقرأ في قصة أبيجايل، وهناك كلمة تُفقد الإنسان البركة مثل قصة يعقوب وعيسو، وكلمة قد تضيّع قوة إنسان مثل شمشون ودليلة، وكلمة تكسب النفوس مثل بطرس الرسول يوم الخمسين، وكلمة يأخذ منها الإنسان بركة مثلما حدث مع حنة أم صموئيل...
صوم الرسل هو صوم الفم، أن تكون شاهدًا للمسيح. هماك من يشهد بالفم: باللسان والكلام والوعظ، مثلما قرأنا عن الآباء الرسل في سفر الأعمال، ولكنه كلام بتعضيد الروح القدس كما قال القديس بولس: «وأنا لَمّا أتَيتُ إلَيكُمْ أيُّها الإخوَةُ، أتَيتُ ليس بسُموِّ الكلامِ أو الحِكمَةِ مُناديًا لكُمْ بشَهادَةِ اللهِ... وكلامي وكِرازَتي لم يكونا بكلامِ الحِكمَةِ الإنسانيَّةِ المُقنِعِ، بل ببُرهانِ الرّوحِ والقوَّةِ، لكَيْ لا يكونَ إيمانُكُمْ بحِكمَةِ النّاسِ بل بقوَّةِ اللهِ» (1كو2: 1-5).
هناك أناس يستخدمون الفم ليكون شاهدًا للمسيح، آخرون يشهدون بالفم واليدين مثل طبيثا في سفر الأعمال والتي كانت تخيط ملابس. قد لا تكون خادمًا في الكنيسة بمعنى خدمة التعليم، لكن ممكن أن تشهد للمسيح من خلال ما تقدمه أو ما تصنعه بيديك شهادة للمسيح. مثال آخر هو أكيلا وبريسكلا امرأته اللذين كانا يصنعان الخيام. نتذكر أيضًا سمعان الخراز الذي كان رجلًا عاديًا شهد للمسيح من خلال خدمته ومن خلال تنفيذ الوصية، وبصلاته نُقل جبل المقطم.
هناك كذلك من يشهد بعمل القدمين، أي الافتقاد. يبحث عن المنسيين والبعيدين، يذهب لأماكن نائية ويحاول أن يخدمها. مثلًا كثير من أولادنا الأطباء داخل وخارج مصر يذهبون لمناطق نائية في أفريقيا وغيرها ليخدموا المحتاجين ويعالجونهم، لم يقفوا ليعظوا لكنهم شهدوا بالسعي الى كل إنسان محتاج بأيّة صورة من الصور. نسمع في هذا الإطار عن القديس يوحنا القصير وكيف افتقد بائيسة وأنقذها من الخطية. أبونا بيشوي كامل -الذي اعترفنا بقداسته مؤخرًا- كان يسعى وراء الإنسان الضال أو المُهمَّش أو التائه حتى يرده.
المهم أن تشهد للمسيح، وتطبِّق الوصية «تكونون لي شهودًا».. تعالوا نأخذ نماذج من آبائنا الرسل:
شماس اسمه استفانوس، كان أول الشمامسة. استفانوس شهد للمسيح بنقاوته وطاهرته، وأيضًا بحُسن شرحه وتعليمه، وأيضًا بصلاته حتى صار وجهه كوجه ملاك، وكان يصلي وهو يستعد للرجم، أي في موقف كله توتر وعنف، ورُجِم استفانوس وصار شهيدًا واسمه محفوظ حتى اليوم، وعيد استشهاده بعد عيد الميلاد بيومين (1 طوبه – 9 يناير).
فيلبس المبشر أيضًا الذي بشّر في بلاد كثيرة، وتوما الرسول الذ وصل حتى الهند. كيف قطع كل هذه المسافة في زمن لا يوجد فيه طيران ولا في طرق معبّدة. كل الآباء الرسل شهدوا للمسيح، وعندما يحل صوم الرسل العام القادم، اسأل نفسك: كيف أكون أنا شاهدًا للمسيح: في عملي، في بيتي، في خدمتي، في كنيستي، في حياتي بصفة عامة؟
أوصى موسى الشعب قائلًا: «ولتَكُنْ هذِهِ الكلِماتُ الّتي أنا أوصيكَ بها اليومَ علَى قَلبِكَ، وقُصَّها علَى أولادِكَ، وتَكلَّمْ بها حينَ تجلِسُ في بَيتِكَ، وحينَ تمشي في الطريقِ، وحينَ تنامُ وحينَ تقومُ» (تث6: 6-7). لتكن الكلمة التي على لسانك الكلمة المقدسة في كل وقت، فكيف تشهد بكلامك إذا كنت تقع في خطايا اللسان وما أكثرها: الغضب، الشتيمة، القسم، إفشاء السر، نقل السيرة أو مسك السيرة، إثارة الشائعات، الكلام الخبيث... الخ. لكن الوصية تقول لكل واحد منّا أن تكون هذه الكلمات "على قلبك"، ليست مجرد موجودة أو مكتوبة، لكن داخل قلبك. قصها على أولادك، احكِها بصوت مسموع، ولتلتف الأسرة حول الإنجيل. تكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق، فحيثما تكون يجب أن يكون لسانك مُملَّحًا والكلام فيه مأخوذ من الكتاب. لاحظ ن الوصية «تكونون لي شهودًا» الفعل هنا المضارع المستمر، أي تشهد للمسيح صباحًا وظهرًا وبالليل ونصف الليل والفجر، يصير الإنسان شاهدًا في كلامه، في كنيسته، في خدمته، في علاقات الخدام مع بعضهم البعض، في البيت، في العالم.. يكون حضوره كأنه ممثّل عن المسيح، كما قال بولس الرسول: «إذًا نَسعَى كسُفَراءَ عن المَسيحِ، كأنَّ اللهَ يَعِظُ بنا. نَطلُبُ عن المَسيحِ: تصالَحوا مع اللهِ» (2كو5: 20)، وهذه الشهادة: تصالحوا تعني توبوا.
أخيرًا: كيف يمكن أن أشهد بفمي؟ ماذا أصنع؟
(1) اشهد لمسيحك من خلال صلواتك. أحد الضعفات التي تحدث في الصلاة أن يطيش العقل. صلِّ بصوت مسموع، وبطريقة لا تزعج من حولك. نصلي في المزامير: «في ضيقتي إلى الرب صرخت»، والصلاة أنقذت يونان لما كان في بطن الحوت، وأنقذت دانيال من جب الاسود، والفتية الثلاثة من أتون النار. اشهد للمسيح من خلال الصلاة، ومن خلال كلمة ربنا التي تحفظها وتقولها وترددها. من الأشياء التي نشهد بها في الصلاة الصلوات السهمية القصيرة: "يا ربي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ.. يا ربي يسوع المسيح خلصني.. يا ربي يسوع المسيح..."، بدلًا من أن يمتلئ عقلك بأصوات العالم وحكايات العالم وكلام العالم، قدس ذهنك وقلبك دائمًا بالصلاة.
(2) التسبيح: ما أجمل أن نقدم صلواتنا وتسابيحنا إلى الله، ونحن الآن في شهر كيهك الذي يمتلئ بالتسبيح وتطويب أمنا العذراء؛ هذه شهادة للمسيح. نرتل في كيهك: "قلبي ولساني يسبحان الثالوث. أيها الثالوث القدوس ارحمنا"، قلبي ولساني، كما ذكرت فإن الأذن تسمع والعين ترى، لكن اللسان والقلب يخرجان. طوبى لمن فمه وقلبه يشتركان في التسبيح. التسبيح هو شهادة لمسيحك.
(3) التعليم: تدرس وتبحث وتتعمق وتتأمل مع صلواتك. في دراستك يعطيك الله نعمة أكثر وأكثر. يكون تعليمك مُملَّحًا، تعليمًا صحيحًا. تقول الدسقولية عبارة مشهورة: "امحُ الذنب بالتعليم"، وكان البابا شنوده يذكرها كثيرًا. إنها عملية التوعية، أن توعّي الناس. التعليم عندنا في مدارس الأحد منذ الصغر. تذكروا تيموثاوس تلميذ لبولس الرسول وكيف ربته أمه وجدته، وموسى النبي الذي تربّى وتعلم من أمه، وشخصيات كثيرة شهدت بالكلمة.
(4) التشجيع: أحد وسائل الشهادة أن تكون إنسانًا مُشجِّعًا. من الضعفات الموجودة في مجتمعنا المصري قلّة التشجيع. نحن نحتاج إلى التشجيع، والتشجيع وسيلة من وسائل الشهادة، مثلما فعل بولس الرسول في أثينا، حين امتدح أهلها أنهم "متدينون كثيرًا"، وابتدأ من هنا يبشرهم بالمسيح. الكل يحتاج إلى التشجيع، الصغير والكبير. تشجيع يعطي طاقة عمل فوق الوصف. كونوا مُشجّعين في بيوتكم وكنائسكم ومجتمعكم. لا تكونوا ممن يثبطون الهمم. تذكروا قول الإنجيل عن المسيح إنه «قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مُدخِّنة لا يطفئ»، تذكروا ما فعله مع السامرية وكيف شجعها، وكذلك زكا، وغيرهما. الإنسان المشجِّع شاهد للمسيح.
(5) الحكمة: الآباء الرسل الذين شهدوا بأفواههم وبلغت أقوالهم كل المسكونة، كانوا حكماء، يعرف متى يتكلم ومتى يصمت. نقرأ في سير آباء البرية عن الأنبا يوسف أنه سُئِل: أيهما أفضل الكلام أم الصمت؟ فأجاب قائلًا: "الكلام من أجل الله جيد، والصمت من أجل جيد أيضًا"، أي ما هو الهدف من كلامك أو صمتك؟ ليكن كلامك حكيمًا، واشهد بفمك شهادة تنبع من قلب سليم وحياة مقدسة. لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد آمين.